كنت قد شرعت في حكاية موقفي الفكري والشخصي من تنظيم الإخوان المسلمين فمهدت لذلك بمقدمة عن الموقف الثقافي عامة، ورصدت ثلاث خواص أساسية تحول دون انخراط المثقفين في هذا التنظيم؛ أولها أن الثقافة ترفض الانغلاق والأحادية لأنها تنبع من الانفتاح وتتعمق بالتهجين وتثري بالتعدد، وثانيها هي الارتباط العضوي بالمنظور النقدي، فآية المثقف هي قدرته على تأصيل وعيه بالمواقف ورفضه للمسلمات وممارسته لحريته الكاملة في تقييم الأوضاع والأشخاص دون إملاءات أيديولوجية أوتنظيمية. بينما تجعل هذه الجماعات من السمع والطاعة قانونها الأساسي، ولا يقبل بالكف عن التفكير وتعطيل العقل سوى العوام وأشباههم، أما المبدعون والمثقفون مهما كانت مواهبهم محدودة أو متواضعة فلا يتنازلون طوعاً عن حريتهم في الرأي انتظاراً للأوامر العليا. ومع تعدد أطياف التشدد في موقف هذه الجماعات الجاهلة بالتراث الحضاري للأمة العربية الإسلامية والنافية لأهم ما فيه من فلسفة وفن وعلم وإبداع متشابك مع الثقافات الرافدة له والآخذة منه، فإن الغالب عليها جميعاً هو رفض النقد ومقاومة الاستقلال وتكريس التبعية للنظام والالتزام الحاسم بأيديولوجيته القامعة القاهرة في السر والعلن. من هُنا فإن هذه الجماعات طاردة بطبيعتها للمثقفين والمبدعين، معادية لأدوارهم في المجتمع، تظن نفسها وصية على القيم والأخلاق بيقين لا يثير سوى السخرية. هذا اليقين الأعمى تجلى بشكل سافر عندما كانوا ينضمون إلى صفوف المثقفين في الدعوة للحريات، وهم يطلبون نوعاً واحداً منها هو حريتهم في اقتناص السلطة السياسية، فإذا ما تربعوا على الحكم تنكروا لبقية المنظومة في الحريات، فإذا خرج من صفوفهم من يتعاطف مع الفنانين والمبدعين في الظاهر، استنكروا ذلك منه، بل طردوه من صفوفهم عندما تمادى في الكشف عن استقلاليته وتجرأ على التقدم بنفسه لممارسة السياسة بالترشح للرئاسة، كما حدث مع عبد المنعم أبو الفتوح في مصر، فالسلطوية المركزية في اتخاذ القرارات ورفض النقد ومحاكمة الخوارج سمات أساسية لهذه التنظيمات الفاشية. أما الخاصية الثالثة التي تصرف المثقفين وقادة الفكر والإبداع عن مجرد التعاطف مع هذه الجماعات التي تندرج من التكفيرية الجهادية إلى السلفية الرافضة حتى القطبية الإخوانية، فهي افتقادها لرؤية مستقبلية حقيقية تجعل خطابها مقنعاً لأي مثقف واكتفاؤها بالشعارات الزائفة، فكلما تعمق الإنسان في بحث التاريخ والمجتمع أدرك أن اتخاذ نموذج الماضي مثلاً أعلى لقياس المستقبل عليه جهل فاضح بالشرط التاريخي وحتمية التحولات والتغيرات البنيوية، فالفترات التاريخية الماضية لا يمكن إعادة إنتاجها، والهالة الفورانية المقدسة المحاطة بمعظمها غير صائبة، فقد امتلأت بالصراعات والدماء إلى جانب ما حفلت به من إنجازات، وكل ما يمكن استيعابه منها هو منظومة القيم التي رسختها الإنسانية والنظم السياسية، وفي مقدمتها النظام الديموقراطي، بينما ظلت هذه الجماعات تجادل في الشورى هل هي معلمة أم ملزمة، فإذا ما سنحت لها الفرصة امتطتها للوصول إلى السلطة وعملت على تأبيد وجودها.