البارحة في زيارة طبيبة العيون سألتها إن كنت سأصاب بالعمى لأني أرى نقاطاً سوداء تطير في محيط بصري أحياناً. ضحكت بشدة، وقالت «هذه ظاهرة عادية تحصل كثيراً ربما بسبب الإجهاد فقط، وبالطبع لن تصابي بالعمى، لكن ربما ستحتاجين النظارة للقراءة مع التقدم في السن».. حين قالت «القراءة» و«التقدم بالسن» شعرت بالحسرة، لأننا سنتقدم في العمر ومع العمر لن نستطيع أن نقرأ جيداً. ثم سنموت وسنتوقف عن قراءة الكتب. ستنتج البشرية كتباً جديدة ونحن أموات. لن نعرف عما ستكون، ثم وجدتني أسخر من نفسي لأني أخشى على الكتب التي لن أقرأها بعد أن أموت، في حين أنني لم أقرأ نصف مكتبتي الحالية وأنا على قيد الحياة وبنعمة البصر. شعرت بأنني أريد أن أجري إلى مكتبتي قبل فوات الأوان، أحتضن كتبي. أقرأها كلها، واحداً واحدا. وأعتذر لها عن كل هذا التأجيل والتسويف في قراءتها لانشغالي بأمور هنا وشؤون هناك حتى صارت الكتب آخر الخيارات. سأقرأ كل الكتب. سأبدأ بـ «قواعد العشق الأربعون» للتركية أليف شفق، كما نصحني صديقي الكاتب السوري فادي عزام قائلاً «أتركي كل ما في يديك واقرئي هذه الرواية، ستترك فيك أثراً خاصاً»، لكن كلما أوشكت على الإمساك بها لمحت رواية «ثلج» لأورهان باموك، ولا أدري لماذا أشعر بأن هذه الرواية تناديني وكأنني سأجد فيها شيئاً ما يخصني لا أعرف ما يكون. ولكن أحب لو أقرأ الآن كتاب الكاتب اللبناني عبده وازن الأخير «غرفة أبي»، لكنْ سأقرأ أولاً كتاب «ثلاث نساء قويات» للفرنسية ماري أندياي الحائزة جائزة الغونكور، كان عبده وازن قد زكّاه لي أيضاً قائلاً إنني يجب أن أقرأه، بالفعل أحتاج إلى الإلهام النابع من قوة النساء. أشعر أن في الكتب أرواحاً تريد أن أزورها. الكتب تتنفس في مكتبتي، أكاد أرى أنفاسها صاعدة هابطة بين الأغلفة. سأقرأ كل شيء. كل الكتب التي أمامي، والتي وراء الكتب التي أمامي. سأقرأ كل الكتب.. ما دام في العمر متسع وفي العين بصر. اللهم قدرني على البر بها كلها. لاشيء أهم من قراءة كتاب. يجب ألا يكون الكتاب هناك بانتظارنا حين نفرغ له، بل يجب أن نتفرغ له لأنه حقاً يستحق. القراءة هي أجمل تجليات نعمة البصر. هي منتهى الشكر والتعبير عن الامتنان لنعمة البصر. القراءة حياة أخرى. حين نقرأ نعيش حياتين. نضاعف سنين عمرنا. وحين نقرأ نكون أشخاصاً مختلفين. نكون أكثر تقبلاً للنهايات، ولحظات الوداع، والفراق المحتوم. وهذه أهم عقبات الحياة لو عرفنا اجتيازها نجونا. حين نقرأ نصير أكثر وعياً بأقدارنا، وأكثر استعدادا لما ستؤول إليه مصائرنا. لن نصاب بالفاجعة. سنكون قد نضجنا مثل ثمرة تعرف أن النهاية الناضجة هي فقط قمة العطاء. في الشوارع أراقب السيارات السائرة خلف بعضها بعضاً، وأفكر أن الحياة فقط طريق. سنصل إلى نهايته يوماً، ما يبقى منه هو اليد التي نمدها لإنسان، والابتسامة التي نرسمها على قلب أحد ما، والسعادة التي نمنحها لطفل، والأذى الذي نبذل عناء إزالته. أن تكون طيباً في الطريق ومعطاءً وصابراً ومتفهماً ومتسامحاً ومبصراً هو ما يهم فقط. وأن تبصر جمال شجرة هناك، وإنسان يسعى ليعبر في الجهة الأخرى هو ما يجعلك إنساناً حقيقياً تحتمل الأرض وقع خطواته بخفة نقر أقدام طير. القراءة تمنحك بعداً إنسانياً، ومسحةً ملائكية. فاقرأ ما استطعت إلى الكتاب سبيلاً ولا تشح ببصرك عن الكتاب حتى الإغماضة الأخيرة. مريم الساعدي | Mariam_alsaedi@hotmail.com