كلما لاحت بوادر خلاف أو سوء فهم بين شخصين أو أكثر حول فكرة ما أو رأي معين، استدعينا تلك العبارة التاريخية الشامخة “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”، فهل الأمر بهذه البساطة فعلاً؟ يبدو الأمر فيما يتعلق بالخلاف والاختلاف تمريناً صعباً على ضبط المعايير والأسس التي ننطلق منها عند الاختلاف، ولقد قرأت أن فولتير، فيلسوف عصر الثورة الفرنسية قد دخل في عداوة فكرية مع معاصره الشهير جان جاك روسو، وعلى الرغم من هذه العداوة، إلا أنه أرسل له كتاباً يقول فيه “أنا لا أتفق معك في كلمة واحدة مما قلتَ، ولكني مستعد للدفاع عن حقك في التعبير عن أفكارك حتى لو مت في سبيل ذلك”، فكيف وصل فولتير لهذه القناعة الفكرية؟.
أجد أن الاختلاف مهلكة في أيامنا هذه بين فرقاء الفكر تحديداً، فلا أحد ـ إلا فيما ندر - بإمكانه احتمال أن يواجهه شخص آخر برفض أفكاره أو حتى واحدة من هذه الأفكار، مع أن الأصل في الخلق الاختلاف وليس التماثل، فالله خلق الناس مختلفين ولم يخلقهم متشابهين، وهذا سر من أسرار استمرار الخلق وعمارة الكون، لكن منهج الاختلاف يحتاج دائماً إلى تأصيل وتربية ومنهج، وكل ما يتم بغوغائية وتخبط ودون أسس فإنه ينتهي نهايات سيئة، فبمجرد أن تعلن اختلافك مع شخص، يشطبك من قوائم أصدقائه ببساطة ويمضي مطمئن القلب!!
اختلفت كعادتي ـ بهدوء مع شخص منذ فترة ـ كان الموضوع بسيطاً جداً، وكان يحتاج موقفاً حازماً مني، وتوضيحاً لبعض التفاصيل، لكنني عرفت أن هناك من لا يريد سماع أية تفاصيل بقدر ما يريد أن يسمع كلمة “أنا معك” أو أتفق معك، ودون كثير جدل، أما إذا فكرت في الجدل، فعليك أن لا تتوقع نتيجة مطمئنة، وهنا فإنك قبل أن تخالف فكر جيداً في الشخص الذي تختلف معه.
وقبل ذلك، فإن الاختلاف لا يجوز أن يكون حول الشخص إذا كنت تناقش أفكاره، لأن الدخول في المتاهات الشخصية يجعل الاختلاف شخصياً وضيق الأفق، وفاقداً لأهم أركان الخلاف الذي لا يفسد للود قضية، هذا الركن هو الموضوعية والتجرد، والبعد عن الخلط، فحين لا تبني خلافك معي على الغيرة والانتقام والكراهية والحسد والجهل، نستطيع أنا وأنت أن نختلف وأن نخرج من هذا الخلاف من دون أية خسائر تذكر، وقد تقترب أفكارنا أكثر ونكبر في الخلاف أكثر لأننا سنتعلم أكثر، بينما أغلب المختلفين عندنا ينتهون أعداء لأنهم يدخلون في خطيئة شخصنة الاختلاف، التي تقود إلى التطاول على من نختلف معهم، وإلى التعرض لهم ولأعراضهم وللتقول عليهم وشتمهم و... وهنا فنحن لسنا أمام اختلاف ولكن أمام أمر آخر تماماً.
الغيرة التي سيطرت على فولتير جعلته رغم ما قاله لغريمه روسو من استعداده للموت لأجله، يكتب كتاباً دون أن يضع اسمه عليه ويمعن فيه شتماً وسباً وتعرضاً لروسو، الذي لم يرد عليه أبداً رغم كل ذلك التطاول، وهنا فإن كثيرين ممن أراهم لا يحتملون الاختلاف هم أكثر الناس استخداماً لعبارة “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”، وهم أكثر الناس تشنجاً وغضباً إزاء أي اختلاف، فربما يقصدون أن الاختلاف لا يفسد الود لكنه ينهيه تماماً!


ayya-222@hotmail.com