كلما أمعن بنا الوقت، وتقلب الزمان بأحوالنا مع رمضان، جالت بنا الذاكرة في صفحات الأيام التي صمنا فيها رمضان من دون أدنى شعور بالإرهاق، والأصدقاء الذين تقاسموا معنا تمرات كسر الإفطار، والبلدان التي قضينا فيها رمضان أو كنا فيها وتركنا فيها إخوة وأحباباً يصومون رمضانهم بعيداً عن الأهل والديار، غريبة هذه الذاكرة، كيف يتأتى لها أن تهطل بهذه الغزارة في مواسم العبادة والفرح، وكيف تستحضر أدق أسرارها هكذا ببساطة إغفاءة عين؟ هذا لأن الإنسان حين يعلو فوق شهواته يصير كالماء: خفيفاً، شفيفاً وحاد الذاكرة.. أقول ربما!! حين أنظر إلى أطفال العائلة الصغار الذين يصرون على الصيام تباهياً وإثباتاً بأنهم صاروا في عداد الكبار، أتذكر أطفالاً آخرين عشنا بينهم ومعهم في سنوات بعيدة مضت، أولئك لم تكن تسكنهم هذه الرغبة في إثبات أنهم صاروا كباراً، كانوا أكثر تصالحاً مع طفولتهم - أو هكذا أعتقد - كانوا أطفالاً حقيقيين، أعز أصدقائهم كلاب الحي وقواقع الشطآن، وأمواج البحر، كانوا يعدون لنا طعاماً لغداء الصغار، وقبل موعد الإفطار بوقت كافٍ، كانت البيوت تهدر بأصوات الرجال والنساء، كل يشرف على إعداد طعام محدد، النساء يحكمن صنع “الفرني” واللقيمات، والرجال يقومون بما يعرف بضرب “الهريس”، أي خلطه جيداً قبل سكبه في الأطباق! لم يكن هناك وجود للخادمات من أي نوع، البيوت تعج بأهلها، والاحتفاء يزيد من توتر الرجال لأنهم الأكثر تعبيراً عن شعورهم بوطأة الصيام، أما نحن الأطفال، فنتوارى خلف الكبار بانتظار اللحظة المناسبة، لحظة أن تسكب القدور، وتوضع جانباً، فننقض على بقايا قدر “الهريس” أو “الفرني”، كنا نجد في ذلك متعة ما بعدها متعة، إلى أن تحول هذا السلوك إلى طقس ينتظره الصغار كل رمضان، بل ويرتبط به!! لا وجود لشيء اسمه التلفزيون أو المسلسل في تلك السنوات المتأخرة من الستينيات، فالتلفزيون جهاز لتسلية الصغار لا أكثر، مجرد ربع ساعة للرسوم المتحركة، ونشرة أخبار قصيرة وينتهي الأمر، الأهم والركيزة الأساسية هي المجلس أو ما يطلق عليه في بعض دول الخليج الديوانية، وفي حي “عيال ناصر”، حيث كانت النشأة الأولى، فإن المجلس الأشهر كان لرجل معروف عرف الحي باسمه هو وإخوته “مجلس خليفة بن ناصر”، وإلى هدا المجلس كانت أقدامنا الصغيرة تهرول حاملين أطباق الهريس والفريد والتمر والفرني، وغيرها، كل يأتي من بيته بـ”طبق” أو أكثر، وهناك يجتمع الرجال لتناول الإفطار طيلة رمضان، لا وجود لإفطار منفرد بالنسبة للرجال تحديداً، بينما تكتفي النساء بالإفطار داخل البيوت. لكل زمان رمضان يختلف في طقوسه الشكلية، وإن بقي جوهر رمضان موسم عبادة منتظراً ومحتفى به، وهو في بعض البلدان كمصر وسوريا والمغرب مثلاً يستعيد طقوساً تجاوز عمرها مئات السنين، فرمضان متفرد في احتفالاته وعباداته وأطعمته، لكنني أخشى أن نكون هنا قد تجاوزنا في تخلينا عن واحدة من أكثر طقوس ومظاهر رمضان حميمية وتقرباً لله.. أعني بها التواصل والتقارب الاجتماعي بين الناس. عائشة سلطان | ayya-222@hotmail.com