ما زلت أتذكر عبارة كان أحد الزملاء في العمل يكررها على مسامعي في العمل حين يتطرق الحديث للعلاقات الإنسانية، واحتياج الأصدقاء لبعضهم بعضاً، إذ سرعان ما يستحضر عبارته تلك قائلاً “الإنسان كائن مستطيع بغيره”، تبدو العبارة بشكل أو بآخر تحوير فلسفي لعبارة ابن خلدون الشهيرة “الإنسان كائن اجتماعي بالفطرة”، فمهما بلغ الإنسان من اعتزازه برأيه أو نفوذه أو ماله أو قوته الجسدية، إلا أنه يظل في نهاية الأمر كائناً بحاجة إلى الآخرين، بحاجة إلى التواصل والحديث وتبادل الحياة والمتع وحتى الخلافات والصراخ، حيث الإنسان كائن متطلب، تتوقف متطلباته على حجم ودرجة ما ينقصه، لا ما يمتلكه من أشياء.
ما الذي يمكن أن يبحث عنه إنسان ثري جداً، متنفذ، مثقف، أرستقراطي، ومحاط بحياة كاملة من الخدم والفخامة؟ لن يحتاج شيئاً إلا إذا كان عاجزاً أو محروماً، وهذا ما وجد نفسه فيه ذلك الأرستقراطي الفرنسي فيليب الذي يعاني شللاً كاملاً لا يستطيع معه سوى تحريك رأسه فقط، هو إذن بحاجة ماسة ودائمة إلى عناية شخصية من الألف إلى الياء، وسيدخل حياته مهاجر إفريقي معدم قادم من أحياء الفقر والحرمان، لا يملك شيئاً سوى الحياة، وسيلتقي الاثنان في منتصف طريق محفوف بثقافة عنصرية، وبجدران نبذ وفوقية، تمنع أحدهما من رؤية الآخر على حقيقته، هذه باختصار هي فكرة الفيلم الفرنسي الرائع “المنبوذون”.
“دريس” شاب أسود فقير، وصاحب سجل إجرامي، وهو مطرود من منزل عائلته، سيجد نفسه فجأة في قصر المليونير فيليب، بناءً على طلب توظيف، وسيخضع لمقابلة يشرف عليها الثري نفسه، والذي سيختاره هو تحديداً ليكون الشخص الذي سيعتني به، ومن ثم ستتحول العلاقة إلى صداقة إنسانية عميقة، فدريس يمتلك الحياة التي لا يعرفها الثري فيليب الذي يعيش في عالم من الثراء والموسيقى الراقية ولوحات كبار الرسامين، بينما تغرق روحه في مستنقع من الأشخاص المملين والتفاصيل الرتيبة.
وسيجد في “دريس” حالة إنقاذ وحياة من التفاصيل المدهشة التي لطالما راودت خياله، كان يعيش حالة حب أفلاطوني عبر رسائل زرقاء متبادلة، حولها “دريس” إلى حالة حب واقعية حين رتب له لقاء مع المرأة، تزوجا على اثره، طار به في فضاء الطبيعة، وتسكع معه على نهر السين فجراً، وقاد سيارته الكامارو المهملة بجنون في شوارع باريس، وللمرة الأولى جعله يتحدث مع ابنته كأب من حقه أن يؤدبها بل ويضربها إذا لزم الأمر، ويختار ثياباً بذوق مختلف، ويتوقف عن شراء لوحات سريالية بأموال باهظة، وحين تركه عاش حالة حزن وتعاسة لا حدود لهما.
الفيلم إنساني بامتياز، يضع يده على حقيقة أننا كبشر لا نعرف حدود وطاقات أنفسنا، ما لم نقترب من بعضنا بعضاً، فهذا الاعتياد على تصديق الانطباعات السطحية والصور النمطية المتداولة والتعميم الظالم، يفقدنا فرص اكتشاف عوالم رائعة نحن في أمسِّ الحاجة إليها، بعيداً عن اعتقادنا واعتزازنا بما عندنا، وأننا يمكن أن نكتفي به، فأياً كان ما يمتلكه أحدنا فهو بحاجة إلى كائن آخر يكمله أو يضيف إليه.. على حد تعبير زميلنا القديم: “الإنسان كائن مستطيع بغيره”، فبأرجل وأيدي وطاقة ذلك الشاب المهاجر الأفريقي انطلق الثري الأرستقراطي نحو اكتشاف حياة، أقل ما توصف به، أنها رائعة.


ayya-222@hotmail.com