بلاغة المقموعين” واحد من الأبحاث التي أحلم بتوسيعها وجعلها كتابا. وقد انبثقت فكرة هذا البحث بعد تدريسي “البلاغة العربية” وعلومها لسنوات عديدة. وأذكر أنني توقفت عند تعريف البلاغة القديمة من حيث هي “مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته”. ويقود هذا التعريف تفصيل المقامات والأحوال، فخطاب الذكي غير خطاب الغبي، وخطاب الحاكم غير خطاب المحكومين. وكان كل شيء في ميراث البلاغة يؤدي إلى كيفية خطاب الحكام وطرائق تملقهم، حتى لا ينال البليغ الأذى. ولا أزال أذكر ما يروى عن أن جرير الشاعر دخل على أحد خلفاء بني أمية، ربما كان عبد الملك بن مروان، وأنشد قصيدة مديح، مطلعها: أتصحو أم فؤادكَ غيرُ صاح عشيةَ همَّ صحبكَ بالرواحِ فغضب الخليفة من البيت، وردّ على الشاعر، قبل أن يكمل، صارخا بل فؤادك يا ابن الفاعلة. وللأسف لم يفهم الخليفة الجاهل بلاغة التجريد التي يقوم عليها المطلع، فالشاعر يجّرد من نفسه آخر يخاطبه، فهو يخاطب نفسه وليس الخليفة الذي ظن أن الخطاب موجه له. ووقع جرير في خطأ عدم مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ونال لذلك عقابا قاسيا، فقد أمر الخليفة بصفع الشاعر على قفاه، وظل الشاعر يتلقى الصفعات إلى أن غادر حضرة الخليفة. وقد دفعتني هذه المواقف إلى السؤال عن بلاغة المحكومين المقموعين، وهو سؤال يجر إلى بلاغة الفئات المهمشة المضطهدة، وبلاغة الساخرين الذين أرادوا السخرية من الحكام حتى في مجلسهم، كما فعل المتنبي في خطابه لكافور الإخشيدي بقوله: وما طربي لما رأيتك بدعة لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب فهو بيت يحتمل معنى الذم والمدح معا، فقد كان المتنبي شاعرا ماكرا، وليس شاعرا يحمل خشونة البداوة وعفويتها مثل جرير. وقد أفاض السؤال الأول إلى عشرات الأسئلة جعلتني أتوقف مثلا عند تعريف بعضهم للبلاغة بأنه الصمت، وكيف يقترن معنى الصمت بأبيات لشاعر مثل أبي نواس، في قوله: مُتْ بِدَاءِ الصَّمْتِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ دَاءِ الْكَلامِ رُبَّمَا اسْتُفْتِحَ بِالْقَوْلِ مَغَالِيقُ الْحِمَامِ إِنَّمَا السَّالِمُ مَنْ أَلْجَمَ فَاهُ بِلِجَامٍ وقادتني بلاغة الصمت إلى التورية والرموز وحديث الحيوان، وقرأت الكثير من ميراث الفئات المهمشة لأشهر عديدة، فاكتشفت جوانب جديدة لألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، وعبرت عبر أرض بكر لم أكن أعرفها وأدركت أن هذه الأراضي لا تزال في حاجة إلى المزيد من البحث، فتوقفت عند ما انتهيت إليه، ونشر البحث في مجلة “ألف” التي تصدرها الجامعة الأمريكية. وكانت فرحتي غامرة عندما قرأت ثناء إدوارد سعيد، رحمه الله، عن البحث وإشادته في كتابه “عن المنفى”. ومن يومها وأنا أحلم بالتفرغ الكامل لإكمال البحث في بلاغة المقموعين.