الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زوجة وأم بديل

زوجة وأم بديل
19 سبتمبر 2013 20:38
عانى كثيراً في حياته من الفقر، عمل في مهن وأعمال لا حصر لها حتى أصبح خبيراً في العديد من المهن والحرف اليدوية، واستطاع أن يكمل تعليمه الجامعي، ويحصل على بكالوريوس التجارة، ولا يخجل من ذلك بل يعتبره وساماً ويفخر به ولا ينكره، بل يذكره ويتذكره بين الحين والآخر، يتباهى بأنه من المكافحين في الحياة والعمل الشريف، وفي المقابل كان يجد ترحيبا وتشجيعا له ولأمثاله وهم كثر، لم يجلس يندب حظه، ولم يعتد يوما النظر إلى ما في أيدي الآخرين، خاصة من أقرانه الذين كانوا يذهبون إلى الجامعة بالسيارات الفارهة والملابس على أحدث صيحات الموضة، وينفقون الكثير من الأموال على السهرات ولا يهتمون بالدراسة، وقد سبق الكثيرين منهم بسنوات بعدما نجح في دراسته ورسبوا، وجد عزاءه في هذا النجاح، وأن الإنسان لا يأخذ كل شيء ولا يخسر كل شيء. استمر كفاحه في الحياة وهو يبحث عن فرصة عمل ولم يجدها بسهولة على الرغم من تفوقه، وعانى حتى عمل محاسباً في شركة خاصة، وعندما تخطى السابعة والعشرين من عمره قرر أن يدرك قطار الزواج، وهو في ريعان الشباب، ولا يفوت الفرصة ويتزوج، فلو انتظر إلى أن يدخر من المال ما يلزم للزواج لوجد نفسه وبحساباته البسيطة التي تخصص فيها أنه إذا أراد أن يشتري الشقة التمليك في المكان المناسب ويؤثثها ومهر العروس وتكاليف الزواج مع ربط الأحزمة فإن ذلك قد لا يتحقق إلا عندما يحال إلى التقاعد بعد سن الستين، لذا قرر أن يكون عمليا في تفكيره وقراراته، وأن يبحث عن عروس تكون موظفة تقاسمه المسؤوليات أولاً ثم تشاركه في أعباء الحياة والمعيشة، وبذلك يمكن أن يقضي على المشكلة. لا ينسى أبداً أنه عندما أراد أن يستأجر شقة وجد أنها سوف تلتهم معظم راتبه، وشر البلية ما يضحك، وهو في حالة حزن شديدة عندما جاءه أحد أصدقائه يعرض عليه شقة تمليك بثمن زهيد، كان حلماً بكل المقاييس، توجه معه لمعاينتها وهما يستقلان الباص العمومي، كان طوال المسافة التي استغرقت حوالي خمس وأربعين دقيقة يمني نفسه ويتخيل حجراتها الفسيحة والحمام الأنيق بالرخام أو السيراميك والمطبخ الواسع الذي يرضي عروس المستقبل، وكذلك الشرفة التي تأتيه بالهواء البارد ونسماته العليلة وهو يرتشف الشاي بعد تناول الغداء قبيل الغروب، كان يعيش في الخيالات إلى أن انتهت المنطقة العمرانية من المدينة، الطريق بين المقابر، لا يستطيع أن يمر من هنا كل يوم مرتين ذهابا وجيئة، لكن لا يهم، أفاق على كلمات صديقه وهو يقول له استعد سننزل هنا، الصدمة كانت قاسية على نفسه وقد أفرط في الخيال والتمني، فقد كانت الشقة مجرد غرفة من الطوب اللبن والمنزل من طابق واحد فلا شرفة ولا دورة مياه ولا مطبخ، والأدهى والأمر أنه سوف يعيش بين الأموات، وبقدر صدمته وحزنه وآلامه كانت ضحكاته. تلك الحسابات وهذا الموقف جعله يتخلى عن أحد مبادئه أو أفكاره التي كان يصر عليها في الماضي، فهو منذ نعومة أظفاره ومنذ شب عن الطوق وهو يرفض الاقتران بزوجة عاملة، لا يرى أن عمل المرأة عيباً ولكنه يرى أن راتبها قد لا يكفي احتياجاتها الشخصية ولا يكون لديها وقت لزوجها وأبنائها، في شبابه المبكر يرى أنه الرجل وأنه المسؤول عن زوجته وأبنائه وكل ما يريدون، ولن يفكر يوما في اللجوء إلى زوجته ولا مساعدتها، وقد بالغ كثيرا في ذلك، حتى انه كان يرفض أن يتزوج فتاة ثرية ـ على الرغم من أن ذلك لم يكن متاحا أمامه ـ حتى لا يقال إنه يطمع في أموالها وكي لا تجعله يتنازل عن بعض رجولته أمام أموالها أو تتعالى عليه بها، لكن الزواج من موظفة أمر مختلف ليس فيه تنازلات وإنما تعديل في التفكير لا بأس به. وأخيرا وجدها، معلمة لغة عربية في المرحلة الإعدادية، راتبها قليل، لكن «النواة تسند الزير»، هكذا ردد المثل الشعبي بينه وبين نفسه وليس في الإمكان أفضل مما كان، وجدت لديه ووجد لديها قبولا وتفاهما، كان كل منهما واضحا منذ البداية، ما بدأ به أبوها الكلام بعد قراءة الفاتحة والاتفاق على الترتيبات، انه ليس مطالبا بشيء من تكاليف تلك الزيجة فهو يكفيه أن ابنته حاصلة على مؤهل عالٍ وموظفة، ويمكنها أن تساهم بنفسها فيما يكون عليها من نفقات الزواج، لذا كان هو الآخر اكثر صراحة وأنه لا يملك إلا راتبه ووجد في كلام أبيها مخرجا له من الحرج إذ لم يكن يعرف كيف يتحدث عن إمكاناته المحدودة، ولقيت الظروف المتشابهة ارتياحا لدى جميع الأطراف، وبدأت رحلة أخرى من الكفاح المزدوج لمدة عامين استطاعا خلالهما أن يدخرا مبلغا لا بأس به علاوة على ما كان معهما من قبل، يكفي لجميع نفقات الزواج، على أن يتم في شقة بالإيجار إلى حين ميسرة. أربع سنوات مضت من الزواج الميمون، كانت حصيلتها ولدان وبنت، وترقية للزوج، لكن ترقية الزوجة كانت أكثر أهمية، فقد أصبحت معلمة في المرحلة الثانوية، فتحت أمامها طاقة القدر فقد أصبحت مطلوبة وبشدة للدروس الخصوصية في تلك المرحلة التعليمية المهمة، سعادتها لا توصف، وزوجها لم يمانع بل رحب بذلك، لم يدرك أن ذلك كان على حسابه وحساب زوجته وأبنائه، الجميع تأثروا بغيابها، لكن العائد شديد الإغراء وشهوة المال مستعرة، والأهم انه بدأ يلوح في الأفق الحل النهائي للمشكلة الكبرى التي تؤرق حياة الأسرة وهي الخروج من هذا المسكن المستأجر إلى الشقة التمليك والتخلص من مخاوف الطرد في أي وقت وكذلك عدم الاستقرار. كان يوماً مشهوداً في حياة الجميع عندما انتقلوا إلى المسكن الجديد، هنا تذكر أن هذا هو ما كان يحلم به في الماضي، الحلم نفسه الذي كان يراوده دائماً في النوم واليقظة، والحلم نفسه الذي عاشه عندما كان في طريقه إلى شقة المقابر، هنا البناية جديدة وبها الشرفة والسيراميك الفاخر والأثاث الفخم، لكن بكل أسف لم تكن الزوجة حاضرة، فهي تخرج في الصباح إلى المدرسة ثم منها بعد انتهاء اليوم الدراسي إلى «السنتر» الذي تعطي فيه الدروس الخصوصية حتى بعد منتصف الليل، ثم تعود منهكة ترتمي على السرير جثة هامدة لتعاود الكرة في اليوم التالي، يقوم هو بإعداد الطعام له وللصغار، ويجلس ينتظرها إلى أن تعود، غير أن عودتها لم تغير في الأمر شيئاً، فلا مجال للحوار أو تبادل الحديث، لأنها لا تستطيع الكلام ولا تقوى على الاستماع، وتغط في نوم عميق بمجرد أن تأوي إلى الفراش، لا ترى أبناءها إلا للحظات كل اربع وعشرين ساعة عندما يستيقظ الجميع في الصباح، وبعدها يتفرق الشمل على أمل اللقاء في اليوم التالي، وتقضي يوم الإجازة الأسبوعية كله في النوم تعوض ما يفوتها طوال الأيام الأخرى، وحتى الأسبوع الذي يقتطعونه كل عام بشق الأنفس لقضاء المصيف مصيره أيضاً الضياع في النوم. خرج الزوج عن صمته، اشتكى من هذا الوضع، حذرها من أنه كل هذه الفترة يعيش بلا زوجة، ولم تكن متطلبات الحياة تحتاج إلى التضحية به وبأطفاله، لا يجد إلا النصيحة بالتذرع بالصبر من أجل القضاء على الفقر نهائياً، ومن أجل تأمين مستقبل الصغار، وتتكرر الشكوى ويجد الردود ذاتها، فيحذر بلهجة حادة، ويصل الأمر إلى النكد والمشكلات أغرقت البيت، الأبناء أنفسهم يفتقدون أمهم ويريدونها بجانبهم، لكنها غير قادرة من التخلص من حب المال الذي كان حباً جماً، ترى أنها نعمة يجب الحفاظ عليها وعدم التفريط فيها، وفرصة لا تتكرر ويكفي ما كان من العوز والحرمان، وتكره أن تعود إلى تلك الأيام المقفرة والسنين العجاف. وجد الزوج في جارته الأرملة الصغيرة التي تفوق زوجته جمالا وتصغرها في العمر ما يؤنس وحدته، وجد من تسمع شكواه بل وتهتم بشؤونه هو وبأبنائه أكثر من أمهم الغارقة في جمع المال ورصيدها يتضخم كل يوم في البنك، ورحبت بوجود جارتها في بيتها في غيابها، فهي تثق بزوجها ثقة عمياء، وتعرف انه لن يرتكب فعلاً حراماً، ثم إنه لم يكن معها وحدهما بل هناك أبناؤها الثلاث، والرجل كان بالفعل موضع ثقة يستحقها، فهو ملتزم بصلواته وأمور دينه ولا يختلي بجارته، لكن الاستمرار في تلك اللقاءات أتاح له مساحة من الحوار عن زوجته وتقصيرها في شؤون بيتها، والجارة ترى بعينيها وتعرف ذلك بتفاصيله كافة وربما لا تحتاج إلى سماعه كي تعرفه وإنما تستمع له لتشاركه همومه وتحاول التخفيف عنه، وهي كامرأة همست في أذن زوجته تحذرها من الإهمال في حق أسرتها، تلفت نظرها إلى أنها يمكن أن تخسر أكثر مما تكسب، فليس المال هو كل شيء في الحياة، وإذا كانت تستطيع أن تشتري به أشياء كثيرة فإنها لا يمكنها أن تشتري زوجاً وأولاداً، لكنها جعلت أذنا من طين وأخرى من عجين، ولم تستجب للشكوى من زوجها وأبنائها، ولا للنصيحة من جارتها. أفاقت الزوجة على خبر لم تصدقه ولم يخطر لها على بال، زوجها يعلن زواجه من جارته التي وجد عندها المودة والرحمة اللتين افتقدهما في شريكة حياته، حتى أن أبناءها عرفوا ذلك وأخفوه عنها كي لا تعرقل المشروع لأنهم وجدوا الحنان عند المرأة الغريبة ولم يجدوه عند أمهم، هنا فقط أفاقت من الصدمة، اتهمت زوجها وجارتها بالخيانة، وبأنها لم تتوقع أن يحدث ذلك منهما، وقد طعناها في مقتل بخنجر مسموم، وقد قضي الأمر واستقرت الأحوال على ذلك، فتوقفت عن السير في طريقها، وعادت لتسترد زوجها، أبدت استعدادها لترك الدروس الخصوصية تماماً بل وترك الوظيفة كلها مقابل أن يطلق ضرتها، فرد عليها ..«فات الميعاد». نورا محمد (القاهرة)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©