في لقائه مع إحدى القنوات التلفزيونية مؤخراً، بدا الرئيس التونسي “المنصف المرزوقي” رئيساً اختاره الشعب فعلا، البدلة متواضعة، القميص بسيط ، ولا توجد ربطة عنق فاخرة على طريقة الرؤساء المتساقطين، لسنا ضد الأناقة، فهي تعطي رونقاً للشخص، لكن بشرط ألا يكون الشخص مجرد بدلة فاخرة وباذخة جداً، فالثياب كانت وستبقى مكملة من مكملات الشخصية، وحين يتمخطر الرئيس كديك منفوش ببدلة فاخرة، كلفتها آلاف الدولارات صباحا ومساء، بينما لا يجد شعبه ما يسد به جوعه أو حين يزداد عدد أطفال الشوارع على عدد الشوارع نفسها، فإن ذاك الرئيس لا يستحق أن يبقى رئيساً.
في اللقاء التلفزيوني، تذكرت صورة المنصف التي كنت قد شاهدتها منذ أكثر من 20 عاماً حين قرأت كتابه القيم “ متى ستطأ الأقدام العربية أرض المريخ”، يومها كان المنصف طبيباً اختصاصياً في جراحة المخ وفي ريعان الشباب، الكتاب كان تسجيلاً دقيقاً لملاحظات طالب عربي على درجة عالية من الوعي، يدرس الطب في جامعة السوربون، بينما تلتقط حواسه كل التفاصيل التي تجعله معتزا بانتمائه إلى عروبته وأسلافه المسلمين وجده البدوي الذي كان يستمد من صورته قوة ينتصر بها على ازدراءات وسخرية الطلاب الفرنسيين الذين كانوا يصفرون في وجهه عندما يلتقونه وكأنهم يقولون له: ومن تكون أيها العربي المتخلف، ما جعله يصر على التفوق في دراسته ليدخل على طلاب فرنسا قاعة المحاضرات مدرسا، وكأنه يقول لهم أنا هو العربي الذي سيعلمكم الطب بلغة موليير- بلغتكم، يومها فقط توقف صفيرهم في وجهه وإلى الأبد.
تحدث المنصف في المقابلة بمنطق الرئيس الذي صار على يقين تام حول أسباب تخلف أمته، تماماً كما كان يوم وجد نفسه طالباً في فرنسا يقاوم مخططات الجنرال ديجول الرامية لدمج سكان المستعمرات في الثقافة الفرنسية، يومها وبعد أن سمع خطاب ديجول هرع إلى الهاتف يطلب من أمه أن ترسل له كتباً عربية ليقاوم ديجول، فهو ما عاد بحاجة لبطاطين وحلويات تونسية، إن ديجول يريد أن يحتلني إلى الأبد، وأنا أريد أن احتمي منه بهويتي كما قال لأمه، في المقابلة كان يقول لنكون أقوياء علينا أن ننظف تونس من الفساد، لننطلق باتجاه المستقبل أقوياء.
يقول المنصف “في تونس اليوم نحن نعمل على وضع أسس سليمة لحكم دولة القانون والعدالة، حتى إذا جاء من بعدنا آخرون ليحكموا تكون الأرضية جاهزة، وليتفرغوا للمعركة الأهم مع العدو الأخطر : الفقر” وهنا لابد من أن نتذكر أن العرب منذ العام 1948 اطلقوا ملايين الشعارات باتجاه إسرائيل، وظلوا خلال هذه السنوات يحاربونها بتلك الشعارات الرنانة وبالمزيد من الهزائم ، بينما هي تلتهم أراضيهم قطعة قطعة، المنصف المرزوقي برغم اختلاف الكثيرين معه، إلا أن ما يقوله يرتكز على أساس تشريحي دقيق، مشكلتنا أننا نعاني أمراضاً كثيرة في الجسد العربي المنهك، الفقر والأمية والفساد والطغيان السياسي و... ، ومع ذلك نصر على أننا سنلقي إسرائيل في البحر !!
“ إذا تحول المحيط العربي إلى واحة خالية من الفساد، والطغيان والجهل والأمية والفقر، فإن إسرائيل ستكون محاصرة ساعتها فقط سننتصر عليها “ لم يعد المرزوقي ثورياً حالماً بعد كل هذه السنوات، لكنه كجراح يعرف تماما أين يضع مبضعه ليستأصل المرض.

ayya-222@hotmail.com