قد ترى النوافذ تتسع أعينها قبيل هطوله ويلتذ مداها السحري، وتتسع الأحلام أمام قطرات هامسة تفضي للسماء بالحب الجلي.. قد تراه يستأذن من بوابة جميلة وهلامية طارقا إياها بلطف البرق وصخب الرعود ووجوم الحياة.. إنها رواية الحضور من أجل أن يسقي المطر تربة الأرض، ومن أجل أن يتغلغل في مسامات متجوفة. قد يعبث من أجل أن تنبض عروق الأشجار وتتفرع غصونها قصد أن يرويها بمائه حتى النخاع.. وقد يحيي الورود المتقدة بعذريتها وبألوانها الخلابة.. قد تراه ينهمر بلا هوادة، يشاغب اللون الداكن، يرقّص رذاذه على كيان المدن ويشبعها خضوعا، ويطرق مفاصل الطرقات الرثة ويضعها تحت السكون، ويمتص من شرنقتها وهي مطمئنة لرذاذه وانفلات دموع السماء المبللة برائحة الحياة.. خاصيته حين يربك المارة بحكايات الانهزام، ومن فرط جزعها يضعها تحت طائلة الحسبان والترقب ويرسم لها ملامح مختلفة. كأنه يمسد على الأمواج المتدفقة بحرية وهي تضع على اليابسة مزجها الملون بالمطر، تنسج لوحة رسمتها نقوش إبداعية.. هي لغة لا تحمل حروفا، بل تتعرج ايحاء شعريا على الساحل الذي يهيج ويصمت، فالأمواج الراقصة بهدوء كفيلة بهدم البيوت الرملية، وما نحت بفعل أيادي الصغار والمارة من عشاق سواحل البحر الممتدة.. ها هي آخر إفرازاتهم من بقايا علب فارغة طمستها زخات المطر، واستقرت في جوفها سطوة البحر وملوحته، وتسيد معالم الزرقة الممتدة كأنها طوفان خجول وهادئ. ومن عناوينها التائه وما يرسو منها من بقايا طفحت، تمخر وتنحت، على مر العصور، تتفرد بأسرارها وزهو نسماتها الليلية كي لا تفر الى المنافي وكي لا تضع وجهة الى الغربة كي تستقر من تعب الرحيل. رذاذ يسطر أهازيج للطفولة تكتبها بدموع الملائكة التي تفضي على الأرض حبات الخير والتطهر بتدفقها، عذوبة الماء المائلة في طعمها الى رذاذ الفرح.. هي هبة السماء منذ وهج الحياة.. زخات عطر تبلل أوراقا ناعمة ثمرتها بيوت الشعر وملؤها حبر سال قصصا وكتابة على الضفاف ولوحات فنية تمر من خلالها روح الحياة ونسق الفكر، فالمطر متعة ورغبة في التجلي الإبداعي.. قسمات التشكيل تحررها زخات هامسة بالوجدان تنبؤ بطاقة كامنة لها لذة صافية.. تورد جميل من المعنى وسائر الفنون التي تتحرر الروح بمزيجها فهامتها الجمال والسحر الخلاب وفضاؤها العطاء الإنساني المتوهج بالحياة. تركت شبابيك عيناها تتابع هطول المطر المتدفق بعناية متزنة أمام ثقوب داكنة، ومن وحي راقص ومتحفز أمام سكون واجم ومختزل.. صمت البيوت وفروع الشجر غير عابئة بارتباك البشر.. وحدها تنشغل بلون حذائها المطلي بالسواد، تعبر به أرصفة باتت مرتخية ومكونة برك مائية، فبعد توقف عزف المطر وتلبد الغيوم، وبعد عناء لذة استرسالها، بدأت ابتسامتها تنشق على قدر شفاهها المطلية بالأحمر.. صمت متوج بزهو الغناء وبجمالية الروح التي تنتشي بابتسامة المطر الخرافية.