الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابن زمرك يدافع عن نفسه

ابن زمرك يدافع عن نفسه
19 سبتمبر 2013 10:21
من يزر قصور الحمراء في غرناطة، سيقرأ على الجدران تلك الأبيات الشعرية التي نقشت بشكل زخرفي رائع الجمال وسيسأل بكل تأكيد من هو الشاعر؟ ولقد بلغ هذا الفن المتميز لنقش الشعر في القصور الأندلسية ذرى عالية، واستحق الخلود شكلاً ومضموناً. ولعلَّ من أهم أو أهم شعراء هذا الفن الديكوري الزخرفي هو الشاعر الأندلسي ابن زمرك. ولقد اخترت هذا الشاعر اليوم بعد أن أعرضت عنه وحاولت تجاهله لتعاطفي مع أستاذه لسان الدين الخطيب، والذي عانى منه الكثير في حياته وعمله، والذي كان له دور مباشر في قتله بعد محاكمة صورية أدين فيها ابن الخطيب لا لجرم قام به، بل لفكر اعتنقه ودافع عنه ودفع حياته ثمناً لهذا الفكر الذي أسموه في المحاكمة بالهرطقة. وسبب عودتي إلى ابن زمرك أن ذلك الشاعر الذي استطاع إزاحة أستاذه والفوز برضا ملك غرناطة (الغني بالله) حتى أصبح كاتم سره والمتصرف بشؤون الدولة، هذا الشاعر يستحق أن أطلع على سيرته، وعلى شعره، وأحاول كشف الحقيقة من دون ظلم لأحد ولا انحياز لفكرة مسبَّقة. هو محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد الصريحي أبو عبد الله المعروف بابن زمرك. ولد في بلدة تسمى روض البيازين، وهي شرق غرناطة، وذلك سنة 733 هجرية الموافق لسنة 1333 ميلادية.. وقتل في سنة 795 هجرية الموافق لعام 1392 ميلادية. كان ابن زمرك من تلاميذ لسان الدين الخطيب النجباء أخذ منه العلم الشرعي والفقه والتفسير واللغة والرواية. ورغم الفارق الاجتماعي بين الأستاذ وتلميذه، حيث كان لسان الدين الخطيب ينتسب إلى أسرة عربية عريقة مكنته من الدراسة في جامعة القرويين في فاس، ثم أهلته لتولي الوزارة لدى الغني بالله محمد بن (بني نصر) ولقب بذي الوزارتين، السيف والقلم.. أو الأدب والسياسة. أما ابن زمرك فكان من عائلة بسيطة لا يملك إلا ما تعلمه على يد أستاذه لسان الدين بن الخطيب. ولم يكن يخفي ذلك الشعور بالنقص الذي كان يعاني منه ابن زمرك عندما يصور له طموحه إمكانية التغلب على ذلك الأستاذ بالعلم وبالشعر. وعلى طريقتي وجدت أنه لابدّ لي من إجراء لقاء مع ابن زمرك، أحاول فيه البحث عن الحقيقة لا أكثر: ? أنت متهم بقتل لسان الدين الخطيب.. بماذا ترد؟ ??بل إنني أتهم ذلك الرجل بقتلي. ? كيف يا ابن زمرك والرجل كان مسجوناً، وأنت الذي سافرت إليه من غرناطة على رأس وفد يمثل الغني بالله محمد وكانت مهتمك الأساسية أن توغر صدر الملك المغربي ضده؟ ?? كنت مكلفاً من الغني بالله أن أكشف للسلطان المغربي حقيقة هذا الرجل، خاصة بعد وفاة السلطان أبي فارس عبد العزيز بن أبي الحسن المديني الذي كان يحميه رغم إساءاته لملكه الغني بالله محمد. كان السلطان عبد العزيز يدرك قيمة ذلك الشاعر العالم لسان الدين بن الخطيب ولذلك أكرمه وقدمه وحماه.. فهو عربي مسلم وهو شاعر وعالم يستحق التكريم. ولكنه كان مهرطقاً. ? أنت الذي تقول. ?? بل كتبه... راجعوها وسترون. ? أكان الرجل مسلماً وموحداً ومؤمناً أم كان ملحداً؟ ?? لقد حاول الخروج على الملة بحجة الاجتهاد.. ولذلك حكم الغني بالله عليه بإحراق كتبه. ? وهذه جريمة تعترف بها.. أنتم أحرقتم العلم والمعرفة. ?? بل أحرقنا الهرطقة. ? أجميع كتبه كانت كما تقول. ?? لا طبعاً، ولكن ما ينطبق على الجزء ينطبق على الكل. ? كنت تحقد عليه وتحسده. ?? بل كان هو الذي يحتقرني ويشيح بوجهه عني. ? لأنك قمت بعض اليد التي أحسنت إليك. ?? أنا وصلت إلى أعلى المناصب بجدي واجتهادي وعلمي وشعري. إذا زرت قصور الحمراء في غرناطة ستجد آثاري التي لن تمحوها الأيام والسنين.. قصائد من شعري تزين جدران تلك التصور. ? لسان الدين الخطيب سبقك إلى ذلك. ?? ما تركه على جدران تلك القصور قليل جداً. ? لأنكم، وأنت كنت مسؤولاً في ذلك الوقت، قمتم بمحو قصائده واستبدالها بشعرك.. تماماً كما أحرقتم كتبه. ? واضح أنك معبّأ ضدي. ? هل تستطيع أن تبدل الصورة؟ ?? نعم أستطيع.. ولكن أطلب منك أن تتخلى عن أي فكرة سابقة وأصغ إلى ما سأقوله. ? تفضل يا ابن زمرك.. ?? لسان الدين الخطيب اشتهر عندكم بقصيدته: جــادك الغيث إذا الغيث همـــا يـــا زمــــان الوصل بالأنـــدلس ولكن هل تعلم أن هذه الموشحة كانت تقليداً لموشحة ابن سهل الذي هرب من أشبيلية التي احتلها العرب إلى سبته التي احتلها الإسبان؟ ? وماذا تقول موشحة ابن سهل هذه؟ ?? تقول: هل درى ظبي الحمَى أن قد حمى قلبَ صبٍّ حلَّه عن مكنسِ فهو في حرٍ وخفقٍ مثلما لعبت ريح الصبا بالقبسِ يا بدوراً أطلعت يوم النوى غرراً تسلكُ بي نهج الغررِ ما لنفسي وحدها ذنبٌ سوى منكمُ الحسنُ ومن عيني النظرِ أجتني اللذات مكلوم الجوى ولذاذي من حبيبي بالفكرِ وإذا أشكو بوجدي بسما كالربى والعارض المنبجسِ إذ يُقيمُ القَطرُ فيه مأتَما وهيَ من بَهجَتِها في عُرُسِ ? مجرد توارد أفكار. ?? قلت لك تخلَّ عن الانحياز.. هذه ليست توارداً للأفكار هذا أشبه بالنقل الحرفي. ? ولكن موشحة ابن الخطيب هي التي خلدت.. ?? سأضطر للانسحاب من هذا اللقاء إذا استمر انحيازك. ? أكمل يا ابن زمرك.. كلّي آذان صاغية. كنت أنا الذي يعمل ويجتهد ويجد، وكان هو الذي يجني الثمار ويحصل على ما يريد.. ولكنني لم أيأس.. واستطعت بما أبدعته وما قدمته أن أصل إلى الوزارة، وأن أخلف لسان الدين الخطيب الذي أصابه الغرور وتجرأ في فكره إلى درجة كاد يصل فيها إلى مناقضة الشريعة والدخول إلى فكر الهرطقة، وعندما شعر أنه كشف وأن عامة الناس قبل الحاكم قد ثاروا عليه، هرب من غرناطة وتوجه إلى المغرب. ?? دعنا من لسان الدين الخطيب يا ابن زمرك.. فلن يقدم حديثك عنه ولن يؤخر.. فالتاريخ حكم عليه وما زلنا نعتبره من أعلام تلك المرحلة ومن أهم شعرائها.. وحتى لا يضيع هذا اللقاء بالحديث عن غيرك، أريد أن أتعرَّف أو أعرف شاعريتك هل قلت شعراً في غير مدح ملك غرناطة الغني بالله محمد.. لم أصل إلى المدح إلا بعد أن أتقنت الشعر ومارست فيه الأغراض الأخرى غير المديح. ? هل قلت شعراً في الغزل؟ ? ? الكثير.. ? مثلاً.. رضيت بما تقضي عليَّ وتحكمُ أُهانُ فأقصى أم أُعَزُّ فأُكرَمُ إذا كان قلبي في يديك قياده فمالي عليه في الهوى أتحكّمُ على أن روحي في يديك بقاؤها بوصلك تحيا أو بهجرك تعدمُ وأنت إلى المشتاق نارٌ وجنّةٌ ببعدك يشقى أو بقربك ينعمُ ولي كبدٌ تندى إذا ما ذكِرْتمُ وقلبٌ بنيران الهوى يتضرَّمُ ولو كان ما بي منك بالبرق ما سرى ولا استصحب الأنواء تبكي وتبسمُ كساني الهوى ثوب السقام وإنه متى صح حب المرء لا شيء يسقمُ إذا أنت لم ترحم خضوعي في الهوى فمن ذا الذي يحنو عليَّ ويرحمُ ? ولكن بربك يا ابن زمرك.. أهذا شعر غزل تناجي فيه الحبيب أم أنه شعر تتسوَّل فيه عطف الغني بالله ملك غرناطة؟ ?? لقد حذرتك ولم تستجب.. وأنا مضطر للانسحاب. تلاشت صورة ابن زمرك من خيالي، وأسفت على تسرّعي بالهجوم عليه، وعدت إلى مراجعي التي تتحدّث عنه وعن شعره.. أدركت وأنا أقرأ البحث الذي قام به سعد محمد العزايزة بعنوان “شعر النقوش عند ابن زمرك”، أن ذلك الشاعر كان بحق عاشقاً للسلطة مدّاحاً للسلطان سجل اسمه وشعره بحروف من ذهب فوق جدران قصور الحمراء في غرناطة.. يقول الباحث: في عهد الغني بالله محمد المتوفى سنة 793 هجرية تجاوزت علاقة ابن زمرك بسلطانه الخدمة والوفاء إلى نوع من الخلّة والزلفى فقد لازمه ابن زمرك في السراء والضراء وبذلك يفتخر مردداً في إحدى رقاع: خدمته سبعاً وثلاثين سنة، ثلاثاً بالمغرب وباقيها بالأندلس وأنشدته فيها ستاً وستين قصيدة، وكل ما في منازله السعيدة في القصور والرياض من نظم رائق ومدح فائق في القباب والطاقات والطرز وغير ذلك فهو لي.. ورغم كل ما قيل عن ابن زمرك، فإنه ترك تراثاً من الشعر، لابدّ من الإطلاع عليه لكل من يحاول نظم بيت من الشعر أو يقوم ببحث عن تطور الشعر العربي في مختلف العصور.. لقد مزج ابن زمرك عواطفه الشخصية مع القيم التي مدحها في سلطانه الغني بالله محمد، والملقب بمحمد الخامس، فجاءت القصيدة مشبعة بعاطفة صادقة ومحبّة خالصة، وكمثال على ذلك نقدم هذه الأبيات في مدح الملك الغني بالله محمد: أتعطش أولادي وأنت غمامة تعم جميع الخلق بالنفع والسقيا وتُظلِمُ أوقاتي ووجهك نيرٌ تفيض به الأنوار للدين والدنيا وجدك قد سمَّاك ربك باسمه وأورثك الرحمن رتبته العليا وقد كان أعطاني الذي أنا سائلٌ وسوغني من غيرِ شرطٍ ولا ثنيا وشعريَ في غر المصانع خالدٌ يحيِّيه عني في الممات وفي المحيا وما زلت أهدي المدح مسكاً مفتقاً فتحمله الأرواحُ عاطرة الريّا وقد أكثر العبد التشكي وإنه وحقك يا فخر الملوك قد استحيا وما الجود إلا ميِّتٌ غير أنَّهُ إذا نفحت يمناك في روحه يحيا المراجع: 1 - ديوان ابن زمرك الأندلسي/ تحقيق محمد توفيق النيفر. 2 - ديوان ابن زمرك/ محمد بن يوسف الصريحي الأندلسي الغرناطي 3 - شعر النقوش عند ابن زمرك/ سعد محمد العزايزة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©