لم أكن أدرك، حين وافقت على الانضمام إلى منتجع صحي في جزيرة نائية ضمن رحلة استرخاء، ما أنا مقدمة عليه. تصورت الاسترخاء يعني أن تأكل ما لذ وطاب من الطعام ثم تتمشى على شاطئ وأنت تراقب غروب الشمس وهي تغيب خلف أفق البحر الشاسع. لكن جاءت التجربة عكس توقعاتي تماماً، كان يجب علينا الخضوع لنظام غذائي يعتمد على الخضراوات لمدة أسبوع كامل. لم أتصور أن المهمة ستكون عسيره، فأنا ورغم تقديري للطعام كواحد من لذائذ الحياة القليلة، إلا أني لست شخصية شرهه، قلت لنفسي: أسبوع من الخضراوات راحة جيدة للمعدة، والسلطات عموماً أنواع عديدة لذيذة. في اليوم الثالث، بدأت أشعر بأني أشتاق للخبز، لمذاقه ورائحته، ومع مرور الوقت بدون خبز شعرت بأني أشتاق لنفسي. فصرخت: أريد خبزاً. اعترضت خبيرة التغذية بدعوى أن الخبز مضر بصحة الإنسان، وحين قالت “الإنسان”، تذكرت من أنا، وشعرت بالثورة تسري في عروقي، قلت: نعم أنا إنسان، والإنسان أحب الخبز من بداية التاريخ، والخبز بالذات تجربة إنسانية خاصة رافقت تطوره الحضاري. فهل كانت البقرة تطحن حب القمح على الرحى لتعجنه وتصنع خبزاً؟ أو هل تجيد الزرافة صنع الفطائر؟، كل أصناف الخبز اخترعها الإنسان. ورائحة الخبز الخارج للتو من الأفران في ساعات الفجر الأولى، إنها مذاق الحياة ونكهة الإنسان، ورمز الكرامة. ألم يصرخ الشعب الفرنسي في ثورته مطالباً بالخبز؟؟ ألم يكن الخبز رمزاً لثورتهم نحو الحرية والإخاء والمساواة؟، تأتي تلك الخبيرة الاسترالية النحيفة التي تضحك بصعوبة، وتعتكف مثل راهب على صحن السلطة ذاته كل يوم لتقول لي إن الخبز مضر بالصحة؟!! إن روح الإنسان تنتشي برائحة الخبز ويمتلئ قلبه بالمحبة ويرهف حتى لتدمع عيناه على من لا يملكون كسرة خبز. هل نقول لهم كلوا “سلطة” مثلاً كما زعموا أن ماري أنطوانيت اقترحت على ثوار فرنسا أكل البسكويت؟. أنا لست ضد الخضراوات، لكني ضد التعبد في محرابها. رأيتهم يأكلون بكل خشوع، مجرد هياكل باهتة، خافتة لا لون لهم ولا رائحة، ترى الواحد منهم وتنساه بعد دقائق، إنسان لا يترك أثراً تحسه، بلا نكهة ولا كيمياء. ليسوا مرضى مضطرين، لكنهم يعتبرون أنفسهم طبقة راقية تعيش حياتها تنتقي أعشابها وتنظر باشمئزاز للبشر الذين يأكلون لحماً وخبزاً ويشربون قهوة وكأنهم طبقة بدائية جاهلة! الخبز تجربة إنسانية، مليئة بالشوق، بالتشارك، بالمحبة، وبالذكريات، بتلك الخبزة التي تقاسمتها مع زميل في فسحة المدرسة، وتلك التي غمستها في كوب شايك صباحاً قبل قدوم الباص، الخبز مثل القراءة والكتابة، لا يستطيع عليه سوى الإنسان، الذي ميزه الله بالعقل لتقدير النعم. الخبز نعمة ربي، ورائحة جدتي، ومذاق أسفاري في بلاد الله بمخابزها المتنوعة التي تشعرك أن الحياة بخير وفيها متسع من الرزق لكل الناس. حين أعلنت استقلالي وكسرت حصار الخبز، التهمت سلة خبز كاملة، فارتفعت روحي من تحت الأرض، وعادت لقلبي لتنعشه، وشعرت أني أتحول مجدداً لإنسان. وغمرني شعور عارم بالامتنان للخالق الذي منحنا نعمة الحياة ورزقنا الخبز: مهجة التفكر. شعرت بأنني إنسان حر مستقل ذو إرادة، وأحسستني أعانق كل ثوار التاريخ الذين دفعوا حياتهم ثمناً لكرامة الخبز. Mariam_alsaedi@hotmail.com