المهنة شرف أخلاقي وقيمي، وفكري، وثقافي .. والحرفية في المهنة ألا يخون المهني ضميره، وألا يتعدّى على جهود غيره وينسبها لنفسه، كما ألا يتصيد أخطاء الآخرين ويعتبرها نصراً له، وألا يخوض مع الخائضين، معصوب العينين، وفوق كل ذلك أن يعترف بالخطأ مهما كان حتى ولو كلفه حياته أو الكرسي الذي يجلس عليه، لأن الإنسان هو صانع الحياة وليست الحياة التي تصنعه .. الإنسان هو صائغ الكرسي، وليس الكرسي الذي يصوغه.
هذا ما فعله رئيس وكالة أنباء “جيجي برس” اليابانية الذي قدَّم استقالته من رئاسة الوكالة، فور علمه أن التقرير الذي بثته وكالة “جيجي - برس” التي يرأسها هو تقرير نقله مراسل وكالته عن وكالة منقولة، واعتبر ذلك مخالفاً لشرف المهنة، وأنه هو الذي يتحمل مسؤولية هذا “الغش” فاستقال الرجل، مرتاح الضمير، معتبراً أن “القص واللزق” ليس عملاً صحفياً، بل هو عمل مسف وغير مسموح به بالنسبة لصحفي محترف.
قصة مثيرة، وتعطي درساً وافياً لكل صحفي يريد أن يختزل الزمان المهني، في لحظة وارفة بظلال الغش والتدليس والخروج على شرف المهنة، والانصياع لضمير خرب مضطرب، تغشاه غاشية الأخلاق بأعراف المهنة الصحفية الشريفة والنظيفة والعفيفة.
ما فعله رئيس وكالة “جيجي” قد لا يفعله كثيرون، بل يعتبرونه منكراً أو تخاذلاً أو تهرباً من الوقوف أمام العدالة والدفاع عن الحق حتى ولو كان حقاً باطلاً.
ما فعله هذا الرجل الوفي لمهنته يحتاج إلى ضمير حي محقون بمضادات حيوية تفتك بفيروسات خيانة المهنة.. يحتاج إلى ثقافة شفافة لا تتمحور حول الذات، بل إن الذات ناصعة غير متضخمة، ذات الإنسان المتصالح مع النفس الواثق من قدراته الحازم الجازم المتمكن من تفاصيل ومفاصل مهنته ولا يخشى لومة لائم في الاعتراف بالخطأ، من أجل فضيلة الأخلاق الإنسانية ونبل هذه المهنة العريقة.. ما فعله هذا الرجل يذهب بعيداً بأخلاق أهل بوذا وما رسخه من قيم تفوز دوماً بالنصر على الذات، وهزيمة الأهواء والإغواء والأنواء. في هذه المهنة قد يختلط الخبر السيئ بالجيد، وقد يمتزج الصحفي النابه والنابغ، بالصحفي المبتذل الهزل، ولا تنجح العملية الصحفية إلا بإحراز الدرجة الكاملة في استخدام الضمير الحي، واحترام عين القارئ وتقدير جهده الذهني عندما يتابع خبراً أو معلومة .. ما فعله هذا الرجل يفيد أكثر من سنوات عمر يقضيها طالب الإعلام لأن ما فعله هو يقظة الوعي، وصحوة الضمير هو الوخز بالإبر “اليابانية”، هي تجربة فذة تفض غشاء المعارف الضبابية، وتحيل الإنسان إلى لحظة انتعاش الضمير وانتشاء الحلم الإنساني، لأجل تحقيق مفاهيم صحفية وغيرها تدحض ما تفعله النفس الأمّارة وما تحيكه النزعات الذاتية من مؤامرة ضد الأحلام الزاهية وضد الضمير الإنساني.


marafea@emi.ae