قال لي، وكان صوته يشبه الصرخة المكتومة في أعماق الجرح: أنت واهمة يا صديقتي فلم يعد ثمة دور للمثقف في واقعنا العربي هذا! في صمت، كنت أتساءل عما يعني بالدور، وهل إن هذا الحكم صادر عن خيبة فرشت ظلها على أرواح المثقفين كما فرشت ظلها على وقائع اتسمت بالخيبات، أم أن هذا الحكم صادر عن حقائق موضوعية بيانية، لا أعرفها شخصياً ويعرفها هو. ولم يتركني لتساؤلي الخفي، إذ استطرد بنبرة مشوبة بالغضب والسخرية: سنوات طويلة لُقّنا أن للمثقف دوراً وللثقافة رسالة اجتماعية، وكنا نردد بوعي زائف: وظيفة الشعر، وظيفة الأدب وظيفة المسرح وها نحن اليوم نكتشف خواء ذلك الوهم الذي ارتهنا له حتى بتنا أسرى ضلاله. صمتَ فجأة وراح يرتب في حركة اضطراب، الصحف والأوراق المتناثرة على طاولته ثم عاد بكرسيه إلى الوراء، وهتف كمن يكتشف حقيقة جديدة: إن جريرة ذلك الوهم تكمن فيما خلفه في نفس المثقف من إحساس مبالغ فيه بأهمية دوره. وإنه معني بتطوير المجتمعات ومقاومة الفساد والظلم. وهو الأعزل، الحالم، المجرد حتى من أسلحة العيش. وتلك المبالغة أفسدت حياته وجعلت منه إنساناً أحادي الرؤية والفعل. واستطرد بمرارة: والآن ها أنت ترين كم هو مهمش ومعوز ومضنى بلقمة العيش، هذا المثقف، وكم هي رخيصة بضاعة الكلام! قلت: اُعذرني، لكن هذا الكلام ليس صحيحاً تماماً، فثمة كتاب وأدباء يعيشون بارتياح إذ لم أقل ببذخ.. قاطعني فوراً: نعم.. لكنهم بضعة أشخاص حظيت في أواخرها، ربما لاعتبارات عديدة ليس شرطها الإبداع. قلت: إذن ثمة اعتبارات أخرى يحظى بسببها المثقف بالاعتبار، أن الأمر يعود إلى نسبية الرؤية الاجتماعية للمثقف. ثم ألا ترى معي أن ما من مجتمع بشري عبر كل العصور والتحولات التي مر بها، خلا من المثقف والمبدع، أيضاً، ما من مثقف حقيقي في مجتمع لم تتطور بناه الكلية بعد، سلم من التهميش والاضطهاد. والواقع أن دور المثقف ليس مبالغاً فيه وليس إنجازاً عظيماً قاد البشرية وعلمها قيم الخير والعدل. صمتُ لحظة واستطردت بنبرة الواثق، فيما ظل ابتسامة ساخرة يلوح على محيا محدثي: إن الإبداع والثقافة منتج عالي القيمة يا صاحبي، بينما نحن نعيش في مجتمعات لم تعرف بعد قيم الإنتاج. ومع ذلك سيظل المبدع يبدع والمفكر يضنيه البحث، والروائي يشهد على عصره، والشاعر يغني أحلام الإنسان وطموحاته، فيما هو مشغول بالبحث عن أسباب عيشه وحق وجوده. وعندما لن تستطيع الكتابة أن تمنحنا خبزاً، فإننا سوف نمتهن الحدادة والنجارة والفلاحة وربما عملنا في شق الطرقات والبناء. وسنظل نكتب لأن الكتابة هي ذواتنا الحقيقية، وهي كوننا وفلسفة وجودنا وحلمنا ورؤانا. وإذا كانت لقمة العيش مضنية، فإن الكتابة أشد ضنى. وحتى لوكنا بين جبلين وفي أشد الأوضاع وحشة وتصحراً سنظل نكتب لنجعل من الوحشة أُنساً، ومن العزلة رفقة، ومن اليأس محطة في انتظار الأمل! hamdahkhamis@yahoo.com