كيف يمكن لكاتب أن يجمع بلاغة بخلاء الجاحظ، وشعبويات الحياة اليومية بأدق تفاصيلها؟ هذا السؤال يلح علينا ونحن نقرأ سخريات القاص علي السوداني في مقالات أسبوعية جمعها في كتاب بعنوان (مكاتيب عراقية...من سِفْر الضحك والوجع) صدرمجلده الثالث هذا العام. فأسلوب السوداني في مكاتيبه -التي هي تداعيات وذكريات بالأحرى- يعتمد الجمع بين مفردات وصيغ قاموسية تراثية، يحاكي فيها مقامات الهمداني ونوادر الجاحظ، ومفردات ومسميات من المحلية العراقية، فيكتمل بذلك إطار حكاياته وتداعياته التي يحشد فيها كل شيء: أسماء الأصدقاء والأدباء والحانات والمقاهي والمطاعم والأسواق، ويصطف فيها بمفارقة أخرى أشد من سابقتها ما هو معاصر وقديم، من الأمكنة والناس والأشياء. فالكاتب المقيم في عمان منذ عام 1994 يرص في صفحات مكاتيبه كل من لاقاه او صادفه اوعايشه ببغداد وعمّان، ويرصد الشواهد البارزة ويقدمها بحس فكاهي لا تنسينا سخريته ما فيه من وجع، ولكن القراءة الممكنة للمكاتيب أسلوبياً هي قراءة المفارقة، اي محاولة إيجاد رابط بين تلك التداعيات التي تنثال من ذاكرة يحررها الكاتب من قيود الزمان والمكان والصلة ببعضها أيضا؛ لأنه يكتبها كما يبدو متحررا من لحظة الوعي المقصود الذي يراقب الأنساق ويرتب درجات الدلالة وتنزيلها من جزء لآخر. أما على مستوى الدلالة فالحنين المفرط لأماكن نشأته الحياتية والأدبية هو المصب الذي تمضي إليه المكاتيب. ولكن الأهم في إنجاز السوداني هو تميزه بهذا النوع من الكتابة التي تسللت إلى مقالاته من قصصه القصيرة وأعماله المنشورة ذات الطابع الساخر والمكتنز بالأسى أيضا. وبهذه الثنائية تعمل مكاتيب السوداني: لغة تراثية في الوصف والقص، وبغدادية مغرقة في المحلية. كما تكتمل دائرة المساخرة بتقديم الكاتب لنفسه (في مفتتح نيسان- يوم الكذب الأبيض- من العام 1961 سقطت على رأسي في بغداد العباسية بقرار من أبي) وهو بهذا يلاعب الصيغة المتبعة في الأوراق الرسمية العراقية للتعبير عن المولد بمسقط الرأس، كما يستخدم العامية للمكاتيب وهي التسمية المحلية للرسائل. لكن لذة التداعيات تلبي الهياج الحسي للوطن العصي والمكلل بالألم. لذا يرسل السوداني مكاتيبه هذه وكأنها مكتوبة لنفسه، أشبه بجرد حساب لما يملك في الذاكرة. ويؤازر ذلك سيل تداعيات حرة بما يشبه السيناريو غير المترابط إلا بسقف الذاكرة وفضائها. ويتماهى أحيانا شكل المكاتيب ومضمونها فيكون الٍتداعي بلعبة الحرف أي أن آخر حروف الكلمة يستدعي كلمة أخرى تبدأ بمثله وهكذا. كما يتأكد المؤثر حين يعلن الكاتب عن مشروع طريف يتناول بخلاء الأدباء ويحكي قصصهم كما فعل الجاحظ، أما أثر المقامات فواضح في الشخصيات والأكلات والمواقف المضحكة. لكن السوداني يتجاوز المزح فيدس قلمه في السياسة وهموم الوطن فيمتزج الوجع بالضحك ليخفف عن قارئه ثقل المآسي والنكبات.