لا أدري أهو شعور متخيل بعدم الأمان أم أن الوضع لم يعد آمنا بالفعل في المنطقة العربية، فقد قلبت الثورات في العديد من البلدان أوضاعاً استقرت عليها المجتمعات العربية لسنين طويلة جداً حتى أصبحت هذه الأوضاع أقرب إلى المسلمات أو الأبجديات في حياة المجتمع والمواطن العربي وأولها ما يتعلَّق بمؤسسة حكم العلاقة مع الحاكم، ذاك الذي كان يبدو وضعاً هادئاً ومستقراً في ظاهره قاد إلى مراكمة جبال من الفساد والتجاوزات والتعديات على حقوق وحياة الأفراد، وحين وصل الأمر إلى الاعتداء على الأرواح وإلى انعدام أبسط الخدمات الحياتية، فقد لجأ المواطن في تلك البلدان إلى الشوارع مطالباً بإسقاط الأنظمة وتطهير مؤسسات الحكم، سعياً وراء أنظمة صالحة ورشيدة تؤمن حقوق المواطنين وتحفظ كراماتهم.
وبالرغم من كل ذلك فهُناك من وقف ضد الثورة وضد قلب الحكم في تلك البلدان، وحين تتحدث إلى مواطني تلك البلدان تعرف أن هناك من يلعن الثورة والثوار ويتوجس من النتائج المقبلة ويمني النفس بعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه، وهنا فليس شرطاً أن يكون هؤلاء المعارضون للثورات سيئين، أو فاسدين، أو أنهم كانوا من أتباع تلك الأنظمة أو متربحين من وجودها، ربما يكون العكس تماماً، فهم في نهاية الأمر مواطنون عاديون وبسطاء جداً، ومثقفون بشكل جيد، بل وينتمي بعضهم إلى طبقة أقرب إلى الأرستقراطية أو على الأقل قد يتشبهون بها، وهُنا فإن الاختلاف أمر وارد، ولكن حين يصل الأمر إلى التفكير في ترك البلاد فالأمر يستحق التوقف!!
في طريق عودتي من براغ استغرقت في قراءة كتاب بعنوان “الديكاميرون” وتعني باليونانية الأيام العشرة، وهو كتاب قديم جداً يعود تاريخ ظهوره لسبعة قرون مضت، وهو من تأليف أديب إيطالي من روائي عصر النهضة اسمه جيوفاني بوكاشيو، يضم 100 حكاية أو قصة يرويها 10 أشخاص، سبعة شباب وثلاث نساء على مدى عشرة أيام بعد أن اختبأوا في كنيسة هرباً من وباء الطاعون الذي كان قد تفشى في مدينة فلورنسا الإيطالية عام 1348م، وهي المدينة التي يعود إليها المؤلف، الرواية تعد واحداً من كلاسيكيات الأدب العالمي، وقد ترجمت لكل لغات العالم، ما يستوقفك وأنت تقرأ “الديكاميرون” هو أنك تشعر بأن كل ما تقرأه من أحداث وفوضى وقلاقل حدثت في فلورنسا ومدن النهضة الإيطالية في القرن الرابع عشر، هو نفسه ما تعيشه كثير من مدننا العربية مع اختلاف في بعض التفصيلات والأسماء لا أكثر!!
الإنسان بطبعه يكره الفوضى ويعمل ما في وسعه لتوفير الهدوء والاستقرار لنفسه وأسرته، إن تاريخ الإنسان منذ بدء الخليقة حلقات متصلة ومستمرة من البناء والاستقرار، حيث لم يعتبر الإنسان متحضراً إلا حين استقر على ضفاف الأنهار وأسس مدنه الشهيرة وبنى حضاراته المختلفة، لذلك يكره الناس الثورات وأحياناً يلعنونها، خاصة حين لا تأتيهم بما يتوقعون ويشتهون، فسقف توقعات الناس عادة ما يكون عالياً، مع ذلك فالناس تنسى القاعدة الأزلية: ليس هناك أسهل من الهدم وليس أصعب من إعادة البناء، لكن الإنسان كما وصفه خالقه في القرآن: عجولاً وضعيفاً وجهولاً!!
حين قالت لي صديقة مصرية على الهاتف بأن الوضع سيئ في مصر وبأنها تفكر في الانتقال إلى عاصمة أخرى للعيش فيها بعد أن انقلبت الأوضاع وسادت مظاهر وظواهر لا تستطيع التعايش معها، كان تعليقي مختصراً على ما قالت، لكنني تذكرت تاريخ هذا الوطن العربي الذي لن تتوقف هجرة عقوله منه شرقاً وغرباً إما بحثاً عن الأمان أو تفتيشاً عن لقمة العيش أو لجأوا إلى منافٍ أكثر رحمة واحتراماً لكرامة الإنسان وحقوقه، فمتى يتوقف هذا النزيف يا ترى؟ متى يعود العربي صانع الحضارات إلى سابق عهده؟ هل يستعجل هذا الإنسان فعلاً وهو يبحث عن حقوقه وأمانه واستقراره بعيداً عن وطنه؟ لذلك خيار خطأ فعلاً؟ وإذن فما الحل؟ ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!!


ayya-222@hotmail.com