يوم 28 يونيو 2011 هاجمت مجموعات من الأصوليين المتشددين دار سينما «أفريكا آرت» في قلب العاصمة التونسية، حيث كان يعرض فيلم للمخرجة التونسية/ الفرنسية ناديا الفاني بعنوان مستفز هو «لا رب، لا سيّد». توقف عرض الفيلم يومها في البلاد، واضطرت مخرجته إلى تغيير عنوانه فأصبح «العلمانية، إن شاء الله». وثارت بعد ذلك عاصفتان: الأولى تهاجم المخرجة وتتهمها بالكفر والإلحاد، والثانية تصم مهاجميها بالديكتاتورية والعنصرية والتخلف. كان يمكن للمرء أن يبقى في صف المخرجة على الأقل من باب الدفاع عن حرية التعبير وحق الفنان في توصيل إنتاجه للمشاهد صاحب الحق الأول في القبول أو الرفض، فالموقف الأخلاقي من مسألة الحرية لا يحتاج إلى براهين، أو محفزات. لكن عندما تشاهد الفيلم الذي أثار العاصفتين، تصبح مسألة المواقف المطلقة نوعاً من التزيّد الفكري. الأسبوع الماضي عرضت قناة TV5 الفرنسية فيلم ناديا الفاني التسجيلي، الذي بدأت بإعداده في أواخر عهد نظام بن علي، واستكملته أثناء الثورة وبعد سقوط النظام، بهدف تسجيل عادات الناس في شهر رمضان المبارك، واستخرجت المخرجة الموافقات اللازمة للتصوير. لكن من اللقطة الأولى تسفر عن موقف كلي معاد للإسلام كدين، تغلّفه بنقد لاذع لسلوك وممارسات أبناء بلدها. طيلة مدة الفيلم، تبدو المخرجة التي تظهر في أغلب اللقطات محاورة أو مجادلة أو معلقة، شبيهة جداً بأولئك الذين اعتدوا عليها وعلى فيلمها، وأحلوا سفك دمها عندما اتهموها بالكفر والإلحاد. لا تستخدم الفاني مفردات أعدائها وصياغاتهم اللغوية، لكنها تصل إلى الغايات والنتائج التي يؤمنون بها. هي مثلهم عندما تتقول على أبناء بلدها، بلا دليل أو إحصاء، بأن %70 منهم لا يصومون رمضان، وأن أكثرهم يدّعون الصوم في العلن. تقول إنه نوع من النفاق الاجتماعي السائد. هي مثلهم عندما لا تبذل مجرد محاولة لفهم ما ترفضه، يتضح ذلك من خلال جهلها المطبق بأحكام وقواعد الدين الإسلامي، ومع ذلك تبني آراءها على أساس من هذا الجهل. هي مثلهم عندما تسخر من الآخر ولا تحترم معتقداته، مثال ذلك المشهد التمثيلي الوقح الذي أدته باستخدام خيطين للإشارة إلى الآية الكريمة عن ضبط موعد الإمساك في رمضان، وهي مثلهم عندما تتعسف في تفسير الأحداث لكي تؤكد وجهة نظرها، فبرأيها أن بن علي شجع التيار الإسلامي واحتمى به، ودليلها أن التلفزيون التونسي مع انقلاب بن علي بدأ ينوّه بمواعيد الصلاة ويقطع البرامج لكي يبث الأذان. تشبه ناديا الفاني أعداءها المفترضين عندما تجعل من معتقدها قالباً جامداً فيه النجاة من كل منزلق والحل لكل أزمة، تقع في ما تتهم الإسلاميين به من جمود وأحادية وصلف، لا تهتم بخصوصية المنطقة الحضارية والدينية، ولا بهوية شعبها، ولا بإرثه الروحي. المسألة عندها حرب وجود بين العلمانية والدين، وهي بالطبع في معسكر العلمانية الذي سينتصر وينفي كل معارضيه وغير المؤمنين بنموذجه الحضاري الرفيع. تستمد ناديا الفاني من علمانيتها نوعا من «الطهرانية» تجعل كل المتبرمين من التطرف والعنصرية يقفون في صفها دون تمحيص، والإشادة بتكسيرها للتابوهات (المتمثلة في طرحها قضية المثلية الجنسية)، وبالتالي عدم مساءلة دعاواها اللائكية في صيغتها الأبيقورية الأولى، ومن حسن الحظ أن المفكر الراحل محمد عابد الجابري قد كفى الجميع عناء المساءلة في موقفه المعروف من العلمانية... تتحد ناديا الفاني مع أعدائها عندما تشبههم، فتصبح مشكلة الراهن مزدوجة. adelk58@hotmail.com