بين يوم من أيام نيسان في عكا 1936 وصبيحة الثامن من تموز ببيروت 1972، يتشكل قوسا عمُر الشهيد غسان كنفاني. عمر شحيح بقياس الزمن، لكنه وافر وخصب بقياس الأثر والفعل الذي يتجاوز المتاح ولا يغيب بغياب صاحبه شهيدا تتفجر سيارته بأطنان من المتفجرات التي عبرت عن خشية قتلته من وجوده وفكره، فدبروا له هذا المشهد الدموي الذي يعود للذاكرة كل صيف. ها أنا أكتب عنه فجر يوم قريب من يوم استشهاده في تموز نفسه الذي كان آخر ما رأى من نور في حياته القصيرة. لكنه احتل في ذاكرة شعبه ومحبي الحرية مساحة تضاعف حياته ووجوده. أسترجع ميتته التي توثقت في أغزر مناطق الذاكرة. كنت أنزل صبيحة يوم قائظ كهذا من باص بغداد الأحمر بريطاني الصنع الذي يتيح رؤية بانورامية لما يحاذيه من مشاهد. قبل أن تلامس قدماي الرصيف شدتني صورة غسان الشائعة واضعا رأسه بين كفّيه تتصدر صحيفة معلقة في واجهة كشك الصحف. الاقتراب منها لمسافة كان كافيا ليلخص كل شيء. ثمة صور أخرى ترينا غسان أو بالأحرى ما تبقى من جسده ممددا. لم أملك ذاهلا سوى الجلوس رأسي بين كفّي وكأنني أنسخ صورته لا إرادياً. ثم أسير تتداعى في مخيلتي أسماء ووجوه وصور شخصياته: أبطال روايته الأولى “رجال في الشمس” الذين ماتوا في الخزان انتظارا ولم يدقوا الخزان فكانت نبوءة بضرورة الفعل ونعي الجيل السابق وخطابه البكائي المستلب. أم سعد وحكمة المرأة البسيطة العارفة بكل شيء. سعيد الذي سار عائدا إلى حيفا ليسترد بيته متوهماً أن الأمر يسير وممكن، بعد أن فُتحت الحدود من الداخل بالتهام الاحتلال المزيد من الأرض والبيوت والبشر، ذلك العالم الثري من السرد المتقن يدهشنا لحداثة سن غسان وحداثة كتابته وحدّة وعيه برسالة الفن الموازن بين الدلالة والحِرفة. لم يكن غسان مباشرا ولا زاعقا بطريقة الجيل الأول من كتّاب النكبة وشعرائها. يذهب بعيدا ليصل إلى غرضه، ويغور عميقا في دواخل شخصياته. ليس الجميع ملائكة. ثمة من يخون، وليسوا محاربين جميعاً، ثمة عشاق في زمن الحرب، ومن يتكلم في لحظة الصمت. سرده مليء بالإشارات، حتى عناوين أعماله تكتنز طاقة دلالية كبيرة كعتبات أو مفاتيح لقراءتها. في “موت سرير رقم 12” مجموعة قصصه المبكرة في نهاية الخمسينيات يحكي عن غريب يموت ويظل منه رقم سريره، وكذا روايته الأولى ورجاله يجتمعون في طريق تؤدي إلى الموت في الصحراء بعيداً عن وطنهم. لم يقل عن الرؤية ما يقوله السياسي. ظل دوما يقدم اختلافه في أسلوبه ورسم شخصياته. عن حكمة سمّى فلسطين: أرض البرتقال الحزين في انزياح معبر وشاعري. تكاملت رؤيته وقدم وجهين لقضية شعبه معرّفا بأدباء الداخل المحجور عن الخارج وقتها، فعرّفنا بدرويش وزملائه من شعراء المقاومة، وقدم دراسته الرائدة عن الأدب الصهيوني كاشفا عنصريته وغطرسته. مِثل غسان كاتبا ومكافحا لن يجود به الزمن كثيراً. لكنه لا يغادر الذاكرة، عائدا إليها كلما ذُكر السرد وفلسطين والإنسانية المعذّبة بأحلامها.