على رأس الجبل بيوت قليلة مطلة على واحة النخيل، ذاكرته “الهملة” تقول: هذا بيني وبين المدى الجميل، وحكاية البيوت وقصص لازالت تلتصق في فناء قمة الجبل، ذاكرة ما تقول: هذا بيني وبين الشروق والشوق ونشوة الصباحات الباكرة، حين كانت خيوط الشمس تتسلل الى أوردتنا، لتنقب في أجساد لا ترتخي أبدا، حين كانت تمتد الظلال كما لو تتبع خطوات الصغار وهي تائهة أمام ذهول الحياة، وحين كانت الطرقات تتلاشى فجأة نحو الضياع، ليبقى الصمت يمزج بقايا رحيق المدى في الدم، وحين كان النهار يعجن قسوة ما في أمكنة وبيوت لا تشبه البيوت. مدى يسترسل في جوفه الحنين، فهذه قراءات حزن لصور الشقاء والشغب الجميل، وعودة لمسافات الغيم حين كانت تهيم فوق الصحراء بحثا عن خيم، وبيوت صغيرة متناثرة على حافة أوردة الماء، وجوه تستقي من الصحراء دم عطرها، وتنبش في ترابها ما تقتات، ولكن سحر الحياة في عطشها وما تحويه من ملاذ الألم وما تصده من خوف. بيوت كانت تحاور الجن، تتساءل: من دهس على عتبة باب صغيرهم الشقي، لتدق الزار من أجل ان يشفى المريض من سقام الجن، وتواريه زوجته من “السبيتار” الذي لا يشفي من داء الجن والطبيب محل إكراه، دواؤه يزيد المريض مرضا، هكذا يعتقد عند بدء مثول الأطباء، وهكذا بدأ الأمر حين أشعل أخي المريض لفافة التبغ، وخيم أمام عينيه دخان أسود، وضرب “بمدواخه” على الأرض وقال: قد ثبت هو الذي داس برجليه على صغيرهم وأرداه قتيلا، لكن مرت أشهر ولم يتعاف المريض وذهب وعد أخيه الذي هو رأس الزار ولم يشف أخيه. لم ينفع الزار، فالمطوع هو الأقرب الى المعالجة، هكذا تقول الروايات وتسير على الألسنة. دار المطوع عادة ما يرتسم بصورة ما في أذهان المارة، يحضر الشيخ الوقور، متقلدا عصى غليظة ويسير بتواضع شديد، يضع رأس المريض غربا ويبدأ باختراق الجسد بأسئلة مباشرة الى الجن، يتداخل صوت المريض بصوت آخر، ويبدأ بالرد على تساؤلات المطوع، وقبل ان يتبدد الجن يعده بألا يعود الى جسد المريض أو هكذا أعلنوا. لكن لم يحدث الشفاء، ولم تجد كل المحاولات حتى رحل المريض، وفقدت حارة “الهملة” وجها كان مشبعا بالفرح وبالبراءة، وظل بيته مهجورا بجانب بيوت قليلة تبددت فيما بعد، مدى آخر لاكتشاف حارة أرضها جبلية جميلة تبحث عن الفرح، فإذا وجد “فالعيالة” أقرب لرقصة الاكتشاف من جديد، وهالة البخور العطرة لا تخفي لمعان السيوف او تعانق العصي، هي حارة أجمل إذا بدأت شعور الفتيات طليقة ممعنة بالسواد على مدار الرقص، وكأن الروح تأخذ مداها لتحاور أهازيج الانتشاء أمام انزواء الخوف وتبدد التوتر وشروق أجمل على سفح الجبل يشاغب المدى من جديد.