عندما تركت العمل الثقافي العام وتفرغت للجامعة واستكمال أبحاثي وكتبي التي هجرتها، شعرت بشيء من الأسى على الكتب التي لم أستكملها. ولكني عزّيت نفسي بأن السنوات الطويلة التي قضيتها في العمل الثقافي العام لم تكن سدى، فقد أنجزت الكثير الذي يعترف به المنصفون، والذي كنت أريد به الإسهام في تعميق الوعي الثقافي العربي بقضايا الدولة المدنية والتنوير. وتوسيع أفق هذا الوعي والانفتاح به على الثقافة الإنسانية، كان هدفا عزيزا على نفسي. ولذلك لم أفرط في الأسى على ما فات، وسرعان ما صرفت انتباهي إلى ما عاهدت به نفسي على أن أكمله من كتب، وهي عديدة. وكل ما أرجوه أن يمد الله في عمري حتى أنجز أهمها وأقربها إلى نفسي. وعندما أتحدث عن الأقرب إلى النفس أجد نفسي أمام كتابي عن أمل دنقل صديقي الشاعر العظيم الذي عدت إلى الكتاب الذي بدأته عنه منذ حوالي عام، وأرجو أن أفرغ منه على نهاية الصيف. ولا يزال شعوري وأنا أعمل في هذا الكتاب أنني أؤدي دينا في رقبتي لأمل، ليس بوصفه صديقا حميما وأخا عزيزا فحسب، وإنما بوصفه ـ فضلا عن ذلك ـ رائدي في اكتشاف الحياة ودهاليزها الخفية واللاهية والموحشة. وأذكر أنه عندما تعمقت علاقتي بأمل كنت قد حصلت على درجة الدكتوراه سنة 1973، ولا أعرف من الدنيا سوى غرفة مكتبي التي كنت أقرأ وأكتب فيها أبحاثي. وجاء أمل كالعاصفة الربيعية المحملة بغبار الطلع. وكان لا يفتأ يقول لي: أنت تريد أن تكون ناقدا مرموقا للأدب، والأدب هو إبداع في الحياة بالحياة، فمادته هي معطيات الحياة. وغايته هي تعميق وعينا بالحياة والارتقاء بها. ولا يمكن لناقد أن يفقد الأدب الذي هو الحياة وهو سجين غرفة مكتبه، لا يعرف الحياة والناس. وهكذا، اصطحبني أمل معه لمعرفة ما لم أعرف في عالم الحياة الذي يظل عالما في حاجة إلى الكشف. وما أكثر الشوارع التي تصعلكنا فيها حتى الصباح، وأنماط البشر الذين كان يعرفهم أمل من قاع المدينة إلى قمتها. وقد تركت نفسى تماما لأمل لعامين أو أكثر على وجه التقريب، إلى أن شعرت أني اكتفيت، وأنه لابد من العودة إلى عالمي الأكاديمي، ولكن من منظور مختلف، فقد علمت نفسي بعد ذلك الموازنة بين محبة البحث الأكاديمي ورغبة اكتشاف الحياة ومعرفة أسرار الأحياء التي لا تنتهي. والحق أنني لم أستطع أن أجاري أمل في حرصه على التهام الحياة التهاما، فهو لم يعرف التوسط والاعتدال في أي شيء. وكان شعاره: الكل أو لا شيء. وكان يتعامل مع الحياة بمنظور أن يحصل منها على أكثر ما يستطيع. ويبدو الأمر لي، عندما أسترجع طريقته في الحياة أنه كان يعرف في داخله أنه لن يعيش طويلا. ولذلك حرص على أن يعيش الحياة طولا وعرضا. رحمه الله وساعدني على إنجاز كتابي عنه فهو بعض ديني له.