في ليبيا ما بعد القذافي، في ليبيا التي ناضل فقراؤها من أجل هواء نقي بلا منغصات ولا لجان ثورية، ولا كبت ولا خوف، يحصل اليوم ما تقشعر له الأبدان ويشيب منه الولدان، ويشعر الإنسان وكأن الزعيم الراحل لم يزل ينفخ في صدور الذين يعتقلون الناس في الشوارع، ويجلدون ويصلبون، ويسلبون، ويعذبون، ويهينون، ويطيحون بكل الورود التي نثرتها الثورة في عيون البؤساء.
مشهد تلفزيوني مروع ويثير الفزع ولا يبشر بالفرح، مشهد يبرز فداحة الفقدان بعد أن أصبحت “الجماهيرية العظمى” من حكم التسلط إلى حكم السوط والصلف.. جماعات مسلمة لا تريد أن تنصاع لسلطة المجلس الانتقالي، وكل جماعة استأثرت بالسلاح، وصار جزءاً من حياتها .. لا شك أن الخوف من الماضي المرعب لم يزل يطارد كل ليبي، ولذلك أصبح السلاح الرفيق والصديق والدرع الواقية من هذا الخوف المجسد بصورة شخص كان الواحد الوحيد، صاحب الكلمة، والنقمة، ولكن ما نسأل عنهم هم العقلاء الذين بشروا بديمقراطية تهطل بأمطار الحرية والأمان والاطمئنان، وتمد الإنسان بإكسير الحياة السعيدة، وتفتح أمامه آفاقاً رحبة، وتشرع نوافذ الاتصال مع ثقافات العالم تفيد وتستفيد .. كل هذا لم يحصل بعد، والبعض يقول هذا أمر طبيعي، فالثورة كالقط تأكل أبناءها، ونقول لماذا ثوراتنا تتحول إلى قطط جائعة شرسة متوحشة، بينما ثورات الآخرين، غزلان في البراري المعشوشبة بالحب، والتلاقي والتساقي، والالتئام والانسجام؟
لماذا نحن الذين يجب علينا أن ننتظر إلى ما لا نهاية، وكلما جاءت “ثورة” لعنت أختها.
هذا ما كنا نخشاه لأن الديمقراطية المدعاة ليست إلا وهماً وأحلام يقظة داعبت من قهرتهم الظروف الماضية، ولكنهم للأسف استجاروا بالرمضاء من النار، فانتعشت الضغائن، وانتشرت المكائد، واختلطت الأمور على الناس، ولم يعودوا يميزوا بين الصديق والعدو، فلو اختلف رجل مع بائع الخضرة، وتشاجر معه، اتهمه بأنه من فلول النظام البائد، واتهم الآخر ببيع البلد للفراغ.
فلا أحد يحكم أحداً، ولا أحد يلجم أحداً، والكل يطارد الكل، والكل يخاف من الكل، والكل يتوجس من المستقبل، لأن غيوم الحاضر لا تبشر بالمطر المنتظر .. أحد أعضاء المجلس الانتقالي عندما سئل عن دور المجلس في إيقاف هذا النزيف، وردع الجرائم المسلحة، قال قد تستطيع تخفيف الألم، لكننا لن نستطيع القضاء على الداء .. وهذه معضلة المجالس الانتقالية، إنها تظل تحوم كالمركبة الفضائية التائهة فوق كوكب الأحداث، لكنها لا تستطيع أن تطأ سطحه لأسباب تقنية ومنهجية تخص هذه المجالس .. ما يهمنا اليوم هو أن تعود ليبيا، دولة ذات سيادة، وما يهمنا هو أن تتمتع هذه الدولة بالديمقراطية، والحرية، حتى يتأكد الشعب المغلوب على أمره أنه فعلاً تخلص من الديكتاتورية .. ما يهمنا هو أن يأخذ المجلس الانتقالي زمام الأمور لترتب ليبيا أوضاعها، وتستعيد مكانتها وقدراتها المنهوبة.


marafea@emi.ae