كان المرسم في ماضي الفن مكاناً شخصياً لا يدخل فضاءه إلا الفنان ـ وربما موديله ـ لكنه في أيامنا القائمة اتسع ليغدو مختبرا للتجارب الفنية، لا يرى أصحابه بأساً إذ يستقبلون فيه زوارهم. وفي هبّة الحداثة وما أزالت من جدران صار اسمه (المحترف) فتمدد من مشغل محدود الوظيفة إلى مسرح للحوار والنقد والمشاهدة، فاستضاف متلقي الأعمال، ليروا ولادتها وكينونتها، ويراقبوا تحولات مصائرها وسطوحها وألوانها وتفاصيلها. في صنعاء وحيث لم يزل التشكيل نخبويا وانتقائيا، لا تتيسر دراسته إلا خارج الوطن، سيكون لغاليريهات الفن الأولى وقاعات العرض والمحترفات طعم مختلف. كأنه اجتلاب أو اقتراض هواء معلب عازل عن تلك الأمية البصرية التي يعيشها المتلقي، شأن كثير من مواطني عالمه العربي المنشغلين عن فضاءات مدنهم وبيوتهم، بأولويات الحياة اليومية المجردة من الحس. ذلك هو شعوري وأنا ادخل أول مرة محترف الفنانة اليمنية آمنة النصيري في شارع خلفي مواز لشارع تجاري مدني الطابع، فكان الوصول إلى قاعة (كون) كما أسمتها آمنة يمثل طقس عبور من المدينة بضجيج سكانها وأصواتهم وممارساتهم المتكررة، إلى ما يشبه اليوتوبيا الحالمة المؤثثة بخيال خصب يوفر الهرب ولو لساعات كل إجازة أسبوعية. تستقبلنا القاعة في رحبة واسعة لها مدخلان يفضي أحدهما إلى سكن آمنة، فكأنها تخرج من بيتها لعزلة الفن، ولكن بحضور وشهود جمعي لا يناقش لوحاتها بالضرورة، بل أعمال سواها غالبا، وكثيرا ما يلتقي هنا ضيوف المدينة وزوارها وكتابها وفنانوها وصحفيوها، وسياسيوها أحيانا. تنوب آمنة بذلك عن مهمات جهات ثقافية غالبا؛ فتحتفي بالإصدارات المتنوعة وتعقد جلسات ثقافية مفتوحة. يتناغم ذلك مع امتدادات ثقافة آمنة ذاتها، فهي متخصصة بعلم الجمال تقوم بتدريسه في الجامعة التي تعمل فيها منذ إنهاء دراسة الفن وتاريخه في موسكو، ولا تتوقف عند الحرفة الفنية، فتمضي مغذية موهبتها بدعم نظري، لاحظنا تطوره وغناه عبر دراساتها ومقالاتها في النقد الفني والتنظير لجماليات الرسم والتلقي، كنت شخصيا أستبق سواي صوب المكتبة التي أصل إليها عبر باب داخلي في المرسم. كتب آمنة التي ألفتها في الفن، ورسومها لقصائد أونصوص أدبية، وكتب مهداة لها، ألبومات فنية، دراسات بالعربية والإنجليزية والروسية.. كلها شواهد على ما تتكون منه شخصيتها: العمل على الرسم والتثقف بالنظريات والرؤى حوله. وهي تكتنز إنسانية تجعل التأمل فيها يبرر وصف الفنان بالنبل، تنحاز بجرأة في أعمالها ومواقفها أيضا للعدل المفقود والمساواة وحرية المرأة في مجتمع لا يدع لها اسما أو صوتا. تكر عيوننا على محتويات المرسم، فنرى جديدا يتشكل وشكلا يتجدد، وتتفوق آمنة على أسلوبها، تبتكر ولا تتحرج في اندفاعها التجريبي، فتمنحنا فسحة من الهواء والجمال لا تمحى من الذاكرة. تقول في حديث متلفز مؤخرا إنها لا تشعر بالرضى عما وصلت إليه، ففي الطموح كثير مما تريد أن تقوله لوحاتها. تلك ليست إشارة تواضع، لكنها علامة رؤيا تجترح وتراهن على مستقبلها الشخصي وفنها ووطنها أيضا..