شيء آسر في شعر ابن زهر يجعلنا نتريث ملياً عنده، فيه تلقائية عفوية وسلاسة غنائية تقربه من الوجدان المعاصر، ينقل لنا صورة شجية لمواجده وأفراحه وطقوس حياته في إمسائه وصباحه. يقول:- “سلم الأمر للقضا/ فهو للنفس أنفع واغتنم حين أقبلا وجه بدر تهللا لا تقل بالهموم، لا كل ما فات وانقضى/ ليس بالحزن يرجع” نلاحظ أولاً هذا التنضيد الإيقاعي المحكم في توزيع الأشطر والقوافي، فاللازمة المنتظمة في المفتتح والختام هي الضاد المفتوحة والعين المضمومة، وقوافي الأشطر الداخلية متغيرة من مقطع لآخر، على أن تسليم الأمر للقضاء والقدر يأتي هنا عن حكمة وفلسفة نفعية لا عن سذاجة ولا مبالاة. ثم يستغرق الشاعر في استعراض متع الحياة التي ينبغي للناس الحفاوة بها والإقبال عليها، وأولها عشق الجمال إذا تجسد في محبوب يطل كالبدر المتهلل، عندئذ يجب صرف الهموم وطي صفحة الحزن، فهو لا يعيد ما مضى ولا يشفي نفوس البشر، ثم تأتي الوصفة الثانية التي طالما كررها الشعراء وتغنوا بها على مر الأيام، ويبدو أن طبيعة الحياة القديمة لم تكن تتيح غيرها للسلو والنسيان. “واصطبح بابنة الكروم من يدي شادن رخيم حين يفترّ عن نظيم فيه برق قد أومضا/ ورحيق مُشعشعُ” الشادن هو ولد الظبية عندما يترعرع ويستغني عن أمه، ولأن جذر الكلمة قريب من الشدو فإن إطلاق وصف الرخيم عليه يستجيب للمس الموسيقى الوضيء، لا لمجرد القافية، فيصور حركته الرشيقة وابتسامته الأنيقة وبريق عينيه الوامض ورحيق شفتيه المشعشع، وأحسب أن الغزل في الساقي في الشعر العربي وتقاليد الخمريات ليس من قبيل العزل بالمذكر، فقد يكون أنثى، لكن فتنة الشراب تنداح لتغمر طلعة من يقدمه ويصبح جزءاً من بهجة الحس بمكوناته في الشكل وقوة التأثير على جميع الحواس. “أنا أفديه من رشا أهيف القد، والحشا سُقى الحسن فانتشى مذ تولى وأعرضا/ ففؤادي يُقطَّعُ” الولع بالجمال، وتجسيد صورة الحسن يجعل الشعراء لا يتحدثون عن شخوص معينين، بل عن نماذج يرسمونها باللغة مثلما ينحت الفنانون أشكالاً من الجمال، لكنه يقدم أولاً فرض الولاء والفداء له، وهو رشا رشيق، أهيف القد ضامر الخصر قد أُشرب من الحسن حتى سكر أو جُن، فإذا غاب عن الشاعر أو أعرض عنه تمزق فؤاده. وما يعنينا في هذا المقطع الفاتن هو الاقتصاد اللغوي الشديد، فليست هناك كلمة واحدة زائدة يمكن الاستغناء عنها في رسم الصورة، وانتظام القوافي يأتي إكمالاً للدلالات لا جلباً للتوافقات، فالرشا والحشا وانتشى تماثلت بالصدفة، والبيت الأخير يختم حركية الدور والإيقاع ويهيئ للتكملة.