كان جديرا ً بعنوان استطراداتي هذه أن يكون بصيغة الاستفهام (ما يبقى من السيّاب؟) لأن ذكرى رحيله في الرابع والعشرين من كل عام مناسَبة لإعادة التساؤل عما يظل من شعره، وقد أثار استفتاء صحيفة ثقافية عراقية هذا العام شجون ميراث السياب وأثره ونفوذ شعره، فاستعدتُ تجربة مماثلة قدمتُها حين كنت أعمل في تحرير مجلة الأقلام ببغداد، إذ توجهت بعد اثنتين وعشرين سنة على غياب السياب بسؤال عن كيفية العودة إلى قراءته، وما يمثله في الريادة والمنجز الشعري. أجاب عنه عشرون شاعراً وناقد شعر، تأكد فيها حضوره وفاعليته، وتجاوزه لزمنه ، ورسوخ ما ضمته قصائده من تقاليد جديدة، كالحسّ الأسطوري والرمزي، والعمق الفكري، والإيقاعية المميزة، والتوسيع السردي للقصيدة. وما دامت تلك المزايا كلها تنسب لشعره؛ فالحري بنا إذن أن نسأل عما يبقى من( شعر) السياب؛ لأن متونه النصية هي شواهد حضوره المفترض بيننا. ولكن السياب ذاته بتجربة مديدة في التجديد والحداثة يتيح التساؤل عنه وعن شعره معا. فقد كان مفتتحَ طرق ومقترحَ منعطف لا يتكرر كثيرا في الشعرية العربية ذات المتانة والصلابة المتأتية من تراكم ميراثها وذراها ومنجزاتها، حتى أصبح التقليد نوعاً شبيهاً باستعادة حضارة أو ماض فني ماثل. لذا تغدو عسيرةً وشائكةً مهمة (النهضة) بتواضع طموحها لمفارقة السائد، و(التجديد) بمحدودية تعديلاته على القديم، و(الحداثة )بتغييرها الجذري للمألوف. لكن السياب استطاع أن يُحدث تلك النقلة التي اقترنت باسمه وبضعة من الرواد تفرد بينهم بأثره الواضح في كتابة القصيدة بكدّه النصي، مستعيناً بثقافته المتنوعة المصادر، ورؤيته المتقدمة المتسقة في جوانب حياته كلها لا في شعره فحسب ، هذا من أهم ما يظل من السياب وشعره معاً، فهو يقدم أمثولة على إمكان صهر المؤثرات بعد تمثلها واستيعابها وضخّها إلى جسد القصيدة؛ لتضيف لها قوة وحيوية ومعاصرة. لم يتصنم التراث في رؤية السياب ولم يهمش، ولم يكن الغرب عدواً مطلقاً حتى في ثقافته ولا نموذجاً يحتذى باستخذاء وضعف. ولم تكن القصيدة محفلا غنائيا بحكم إيقاعية السياب المعروفة، لكنها مادة للفكر والتصدي لأكثر مشكلات عصرنا حرجا ومسؤولية، لذا أجد السؤال عن كيفية قراءة السياب أكثر جدوى اليوم: أهو عابر مر في مسيرة الشعرية العربية وانطوى إنجازه بغيابه؟ أم أنه ما زال يثير في قارئه سؤال التجديد والحرية؟ فالسياب الذي تقدمه القراءة صانع رموز المطر والمسيح وأيوب وجيكور وتموز، و المتغني بعراق لا يرى سواه ويجد كل شيء فيه جميلا حتى الظلام ( فهو يحتضن العراق). موازنة بين الوطني والفني هي درس آخر تهبنا إياه معاودة قراءة شعر السياب، فهو لم يحشد صوته وفكره وشعره لفرد، أو ينحبس في شعار، بل وسّع انتماءه، وعبّر عن ذلك بفنية عالية ميّزت شعره، وأعطته هذا الحضور المتجدد الذي لا نقترح احتذاءه، قدر معاينته واستخلاص دلالاته.