تترك كل الأشياء انطباعاً مختلفاً أو أثراً من نوع ما في داخل كل منا، قد لا نتنبه له أحياناً وقد نتجاهله في معظم الأحيان، مع ذلك فلا شيء يمكن أن يكون بلا قيمة حتى التفاهة نفسها، لكننا لم نعرف بعد أو لم نتعلم كيف ننصت وكيف نتتبع التفاصيل، فعادة ما تعودنا طريقة تربيتنا وأصدقاؤنا وطبيعة الحياة الاجتماعية المتسارعة التي نحياها على الاهتمام بالأشياء الكبيرة والأحداث الجسيمة والمقتنيات الفخمة والشخصيات المهمة وكل شيء ينطبق عليه أو يوصف بصيغ المبالغة: أكبر وأهم وأوسع وأخطر وأضخم وأفخم وأغلى و.... ، الأشياء الصغيرة قيل لنا دائماً إنها تافهة لا وزن لها أو لا تستحق الالتفات!!
حين تغير مكانك، أو الزاوية التي تنظر منها إلى الأشياء أو النافذة التي تطل منها على التفاصيل أو الأسس التي تحكم بها على الحياة والأشخاص والأحداث التي تحصل أمامك ساعتها ستعرف أن الغابة قد تحترق بسبب شرارة وأن ذلك الملياردير الذي يملك كل شيء قد تكمن سعادة حياته في ابتسامة طفل محروم منه وأن الهدوء المتاح في طرقات الغابة المهجورة قد يمنح أرواحنا سلاماً وطمأنينة لا توفرها لنا أفخم عواصم الدنيا، وأن احتضان طفل يضحك ملء قلبه حد الاستماع إلى موسيقى ذلك القلب ينبض في أذنيك هي لحظة بألف لحظة.
لقد وجدنا أغلب من حولنا، يحكمون على الناس من مجرد النظر إلى ثيابهم من دون حتى أن يتبادلوا معهم ثلاث كلمات، الثياب عندنا معيار تقوى ودليل وجاهة كما أنها مؤشر ثقافة وذوق ورقي، وهي بالتأكيد أحد مكملات الهوية الثقافية لأمة أو شعب ما، هذا ما يؤمن به أغلبنا بشكل ما أو بدرجة من الدرجات، لا يمكنك أن تقنع شخصاً متشدداً أن الفتاة الجالسة هناك والتي لا تضع غطاء على رأسها أنها أكثر شفقة على المساكين من تلك المغطاة حتى أخمص قدميها، وأن ذلك الرجل الذي لا يبدو متديناً على الإطلاق يحث الخطى باحثاً عن أي وسيلة لإطعام قط أو مساعدة عاجز أو تدبير معيشة أرملة وحيدة.. المظهر خادع دوماً لكن المظهر تأكيد على الجوهر وليس دليلاً عليه أبداً.
كانوا هنا بالأمس يتحدثون عن فتاة مرت بهذا المكان، صحبتها لعدة أيام، تشاركنا معاً أوقاتاً طويلة من المشي في الغابات والتسكع في مرتفعات كروشنا والجلوس في المقهى الوحيد الذي يقع على الزاوية هناك، مشينا في طرقات كارلوفيفاري الجميلة، مررنا على عيون الماء الاستشفائية المنتشرة على طول الشارع الرئيسي في المدينة القديمة، أكلنا البيتزا حتى مللنا وضحكنا حتى دمعت عيوننا، لكنني في كل تلك الأوقات لم أسمع كلمة تجرح السمع أو جملة غيبة أو إشارة استهزاء أو سخرية، كانت نقية جداً كندف الغيم البيضاء التي تكاد تلمس قلبها حين تنظر إلى السماء!
كانوا يقولون إن تلك المرأة التي لا يظهر منها سوى عينيها تستحق الشفقة لأنها تعاني مرضاً مزمناً وبأنها تستحق التعاطف لإيمانها وورعها ووو... لكنني وجدتها ذات مرة تجلس قريباً من طاولتي تختلس النظر إلى ما حولها كمن يوشك على فعلة ما، وحين غابت نادلة المطعم أفرغت السكاكين وفوط الطاولة في حقيبتها الكبيرة، كان تصرفها مقززاً جداً، لا لأن ما استولت عليه يدخل في باب السرقة فقط ولكن لأن هذه الأدوات تعتبر عهدة ستسأل عنها هذه النادلة المسكينة التي لا يكاد راتبها يوازي ثمن الهاتف النقال التي يحمله أي منا...
لا تبدو تلك الأشياء تافهة، ولا يقصد منها أي إساءة لفئة معينة، لكنها مجرد انطباعات أردت بها أن أؤكد على أننا يجب أن نتحرر من كليشيهات الأحكام الجاهزة الاعتباطية والظالمة والمؤسسة على غير أساس.


ayya-222@hotmail.com