كنت أقلب دفاتري القديمة بحثاً عن قصيدة منسية هنا أو هناك، فوجدت بين أكوام الورق المكدسة حقيبة تحتوي رسائل تعود اإلى زمن لم يخترق الكمبيوتر خصوصيته. رسائل موجهة إلى أصدقاء وأحبة وأقرباء عبر ترحلي الطويل بين المدن والأزمنة والقارات. وحين رحت أقرأها مندهشة بينما ينساب شريط الذاكرة متدفقاً مستعيداً الظروف والزمن والوجوه، وعدت نفسي بنقلها وتجميعها في كتاب أضيفه إلى مآثري الأدبية كما أتوهم دوماً. لكني تذكرت أن الرسائل تحمل بعض الخصوصية التي لا يليق بنا نشرها في واقع ومجتمع يحظر الكشف ويحرّض على السرية! قلت إذن أتركها فربما اعتنى أولادي بنشرها بعد الغياب.. ربما!! لكني تساءلت ما الذي يمنعني من نشرها في الحضور فقد كانت كتابة الرسائل تؤلف جزءاً مهماً في آداب الشعوب المختلفة مع بعض الفروق في مدى العناية والاهتمام بنشرها وإتاحتها للقراء والدارسين والباحثين. ففي الغرب يهتم الباحثون بنشر الرسائل الخاصة لكبار رجال الأدب والفكر والسياسة والفن والحرب ويعتبرونها ضمن الأعمال الأدبية والفكرية الجديرة بالعناية والدراسة، إذ يجدون فيها ذخيرة هائلة ومتنوعة تتباين في أهميتها وقيمتها الأدبية والفكرية والفنية التي تعكس اختلاف المكانة التي يحتلها أصحابها في المجتمع والدور الذي لعبه كل منهم في الحياة الثقافية. كما اهتموا بنشر رسائل لأناس لم يشغلوا مكانة ثقافية مهمة، ولم يحظوا بكثير من الشهرة أثناء حياتهم، ثم كشفت رسائلهم بعد نشرها عن ملكات إبداعية وقدرات متميزة على ملاحظة ما يدور حولهم من أحداث والكتابة عنها لأقاربهم في أسلوب يجمع بين السهولة واليسر والتلقائية والدقة والعمق. ولأن هذا الأسلوب الذي تميزت به الرسائل قد تولد عن الشعور بالمساررة بين شخصين تربطهما علاقة ما، يأخذ مداه واتساعه في غياب الرقابة الاجتماعية والقوانين الوضعية التي تحكم وتضبط الكتابة المعلنة بأشكالها، ففي لحظة الجلوس إلى كتابة رسالة موجهة إلى شخص بعينه تسقط الرقابة من أي نوع كانت في الذاكرة البعيدة ولا يحضر في المساحة بين الورقة والكاتب سوى الحبيب أو الصديق أو القريب. يقابله غياب تام لذلك الشعور المشحون بالتوجس والرهبة والانضباط الذي يحاصرنا حين نجلس لكتابة مقال لصحيفة أو دراسة لظاهرة ما، أو أي شكل من أشكال الكتابة التي نقصد نشرها عبر وسائل الإعلام. فالرسالة الشخصية هي دفق الشعور وسلاسة التعبير، وعفوية التنقل بين الأفكار والوصف والتصوير، وهي حديث أكثر كثافة وأغزر وجدانا من أشكال الكتابات التي يحكمها الانضباط والمراوغة والقوالب الفنية السائدة، من هنا تجيء دقتها وعمقها وأهميتها الأدبية كمفتاح لفهم أعمق سواء لكاتب الرسالة، أو للظروف الاجتماعية والتاريخية التي كتبت فيها. أما في حاضرنا العربي فإن نشر الرسائل الخاصة لأي شخصية يحاط بكثير من المحاذير والاعتبارات التي قد تمنع هذا النشر أو على الأقل تخضعه لكثير من القيود أو تحوله إلى وسيلة للتشهير والاتهام، بحيث يصبح من الصعب اعتبار المراسلات جزءاً أساسياً في الأدب العربي الحديث، رغم أنها كانت تؤلف جانبا مهما من الأدب العربي في عصور سابقة. hamdahkhamis@yahoo.com