كثيرة هي الأشياء المبهجة الممتعة التي تمر بنا وعلينا في الحياة، والتي حين نحاول تكرارها نعجز عن الوصول إلى تلك البهجة والدهشة والمتعة المباغتة التي أحسسنا بها في المرة الأولى.
إن الدهشة واحدة من الانفعالات التي لا تتكرر ولا تفتعل ولا يمكن أن تمارس بالتمثيل أو الإجبار، إنها انفعال صعب المنال.
إن أكثر ما يفتقده إنسان الوقت الحاضر إحساسه بالدهشة إزاء ما يراه ويعبر به، والسبب في كثرة المتاحات أمامه، تلك مشكلة حقيقية تسلبنا الكثير من المتع، وتحرمنا نعمة الوصول إلى عمق الإحساس بالتفاصيل المثيرة.
إن فقداننا القدرة على الدهشة في موازاة تفاصيل المشهد الحياتي اليومي يوازي فقدان إحدى حواسنا الخمس أو جميعها معاً، ممارسة الدهشة واحدة من فضائل الحياة النقية، وهي دليل مؤكد على سطوع حرارة الحياة في قلوبنا.
إننا بإزاء مشهد الحياة كله، التفاصيل، الذكريات، الأصدقاء، السفر، الصدمات، الظروف الجميلة الطارئة، الأشياء الجديدة التي نراها للمرة الأولى، يفترض بنا أن نعيش شهقة الاكتشاف الأولى، دهشة ملامسة العين لدفق النور بعد السير طويلاً في ذات السرداب أو النفق، ألا تتحول الحياة أحيانا إلى مجرد نفق طويل نعبره دون أن نعي ورطة أننا محبوسون في نفق لا نفعل شيئاً طيلة نهارات العمر فيه سوى انتظار شيء من النور في نهايته؟ نحن ننسى هذه الورطة لطول عهدنا بالنفق، ولأن الإنسان ابن العادة، ولأنه اخترع الاعتياد ليتغلب على غياب الدهشة الطويل.
يقولون إن الأشياء الجميلة هي كذلك لأنها نادرة ولا تتكرر، التفاصيل الملقاة على قارعة الطريق، المكررة والمألوفة لا تستدعي الالتفات أو الانتباه، قدر الجمال أن يكون نادراً ولهذا السبب نفتقد للدهشة.
نحن لا ندهش إلا في مواجهة الجمال، الأشياء المعتادة والمكرورة مملة لكنها حتماً ليست مدهشة، المدهش حين تقع في الحب للمرة الأولى- مثلاً- لكن حين تستمر فيه لا يعود مدهشاً.
جمال العشق في البدايات فقط، وحين يصير اعتياداً يصير ككل الأشياء، كتناول وجبات الطعام، والذهاب للعمل، ودفع فواتير الماء والكهرباء وكإلقاء التحية على الجار أو على زملاء العمل.
ألا يتساءل الرجل: أين اختفت كل تلك المشاعر المتوهجة بالشوق والوله والهيام تجاه تلك المحبوبة التي غدت فيما بعد زوجة؟ ما الذي تغير يا ترى؟ فاروق جويدة يقول له مختصراً الحكاية: “لا أنت الذي كنت، ولا الزمان هو الزمانْ”.
الزمان يسرق منا الطعم واللون، يتسلل بخفة ليأخذ منا نسغ الحياة شيئاً فشيئاً، لكنه يترك لنا الأثر، أثر رائحة لا تغادر مراكز الإحساس في أدمغتنا، أثر الشعور بخفقة قلب مباغت تجاه مكان نعبره أو طعام نتذوقه أو عطر يعبق في زوايا مكان ما، هذا الأثر الذي يتركه لنا الزمن ليس سوى محاولة احتيال أخيرة منا لافتعال بقايا دهشة أو ما يشبهها، لكنها عادة ما تكون محاولة فاشلة، فحتى الذاكرة تجهد نفسها للتذكر دون جدوى ودون فائدة أحياناً.
هذه رائحة أعرفها جيداً، يقول أحدنا، وهو يعني في الحقيقية هذه رائحة تلك الفتاة التي شاركتني فصل الدراسة أيام الشباب أو تلك رائحة عطر كنت أستخدمه كثيراً ذات زمن مضى، أمام الأثر تتعب الذاكرة كثيراً، لأن استحضار حياة كاملة بكل تفاصيلها أمر مرهق، فمرهق جداً أن نحاول تكرار الحياة مرتين.


ayya-222@hotmail.com