من متع البعد عن السياسة وأخبارها وحكاياتها البائسة، أن يكون لديك كل الوقت لتتأمل كل التفاصيل الأخرى حولك بشغف، فحين لا يستقر في قلبك ذلك التعلق بمتابعة أخبار الدم والحروب، وذلك البؤس الذي يتركه مرأى طفل يرتجف كورقة في مهب الريح لأن قاتلاً معتوها قرر قطف روحه بالكيماوي؛ لحظتها فقط تستطيع أن توقظ حواسك لتتراقص بضمير مرتاح وتتابع تنقل عصفور بحجم الإصبع يحمل في منقاره قطعة خبز وجدها بين الطاولات والكراسي، تظل تتأمله مبتسماً وسعيداً كطفل يكتشف للمرة الأولى وجود عصافير تحلق بأمان. بعيداً عن نشرات الأخبار، تنتبه فجأة أن السماء التي فوق رأسك هي نفسها السماء التي خلفتها وراءك في مدن أخرى، لكنها هنا بإمكانها أن تحتمل عبور عصفور دون أن تطلق عليه النار، كما أن بإمكانها أن لا تضم سوى الغيم والمطر ورفوف العصافير وأشعة الشمس، بينما وأنت تتابع نشرات أخبار السياسة البائسة لا يمكنك أن تتخيل سماء خالية من طائرات قاصفة وصواريخ عابرة ودخان كثيف يطحن الأفق والحياة معاً. وهذه أيضاً واحدة من محاسن اعتزال نشرات الأخبار في تلك الفنادق التي لم يصلها تطور البث المباشر للحروب وقتال المدن وقتل الأطفال، أن يكون لك متسع من الوقت لتصير أكثر إنسانية وانتباهاً في مراقبة ما حولك، بمتعة وبفضول ونزق أيضاً، فلا بأس في نزق يقودك إلى معرفة ما يخفيه المشهد الذي يتوالى أمامك حتى وإن كان ما يختبئ تافهاً أو غير ذي قيمة، فالحياة جملة طويلة لا تخلو من الفواصل والجمل الاعتراضية وعلامات الترقيم التي لم نستخدمها قط، وربما لن نعرف يوماً كيف ومتى نستخدمها، لا بأس أن نعيش الحياة في كامل مشهديتها، بالقيم والتافه فيها، فهذه هي الحياة في النهاية، نشرات الأخبار وحدها من يكذب علينا ليقنعنا بأن الحياة جملة حرب مبنية للمجهول دائماً. بعيداً عن السياسة، تتيقظ حواسك لتراقب وتتابع، وتتذوق، فتحس وتتأهب لاستقبال كل ما يحيط بك باعتباره واقعاً جميلاً موجوداً عليك أن تحياه، تشعر برهبة حقيقية تجاهه، حيث المعرفة مسؤولية في نهاية الأمر وهي عبء حقيقي يملأ قلبك باليقظة وأحياناً بالتشتت. أنت لا تعرف ذلك في معظم الأوقات لأنك مستلب تماماً أمام مشهد الدمار والتفجيرات، تتأمل بخوف تلك الأكتاف المنهكة تحت ثقل صواريخ “الآر بي جي”، وتلك اللقاءات والبيانات والمشاورات والوجوه الكالحة والمسطحة وعديمة المشاعر وهي تتغلغل في كل خلاياك وشؤونك دون نتيجة، فتعرف حجم المأساة قياساً بحجم الكذب المندلق من مسام تلك الوجوه ومن خلال الشاشات الفضية. من فوائد أن تحجز غرفتك في فندق بعيد جداً عن خطوط الطول والعرض التي تتقاطع مع ما يسمى بعواصم القرار، أن  هذه الغرف الخشبية بلا قنوات فضائية عربية تهيل الكذب في وجهك ليل نهار أو تكيل الإثارة لتملأ روحك بالبؤس أو تكيل بمكيالين فتضيع البوصلة منك تماماً، في هذه الغرف لا سياسة ولا أخبار عاجلة عن إحصائيات القتلى الأخيرة، ولا هم يحزنون، حتى الناس الذين تجدهم عادة في ساحات وأمكنة أخرى منغمسين في أحاديث الحروب دون داع وكأنها شأنهم الخاص، تجدهم هنا بلا أخبار ولا سياسة بعيدين مبتعدين هادئين لا يتحدثون سوى عن المطر والشجر والثلج والبرد والجبال والبحيرات وكل التفاصيل البسيطة الملونة.  هذه واحدة من جماليات الحياة  بلا سياسة أو نشرات أخبار، أن تتنبه إلى أن هناك حياة أخرى نسيتها منذ زمن، حياة أكثر بساطة وهدوءاً مما تظن، حياة جميلة تستحق أن تعاش ببهجة، وأن تعشق بمزاج وأن تتأملها بهدوء. ayya-222@hotmail.com