في حياتنا الماضية كانت هناك مهن صغيرة، لكنها مهمة للناس والمجتمع، اليوم معظمها اندثر بموت أصحابها أو لم تعد لها حاجة أو تجاوزتها الحياة العصرية بمبتكراتها الحديثة والبديلة، كانت مهناً ضمن إيقاع حياة الأمس، وكنت شغوفاً بمتابعة ممتهنيها لساعات دونما أي ملل أو كلل، فخلف تلك المهن كانت تقف شخصيات متميزة في طبعها، وشكلها، وحضورها المختلف، وما يمشي وراءها من حكايات، تصل لحد الأساطير، من تلك المهن القديمة وأصحابها الذين احتفظ بهم في الذاكرة: -”ضرّاب الدواشك أو المطارح” أو المنجد، كان يحمل آلة من الخشب ووترين من الخيوط، مثل آلة الطنبورة الموسيقية، ولكنها بسيطة، يأتي عادة في حارتنا يوم الثلاثاء أو الأربعاء أو يمر يومين خلال الأسبوع، فتعرف الناس موعده، ويبدأ بالنداء: “مطارح” كان ينقي القطن في زاوية من البيت، وينثره، ويعيد ترتيبه، ثم يرجعه في المطرح ويخيطه، ولا أعرف مدى فائدة تلك العملية، إلا أن الأهل كانوا يقولون: “الحين رد المطرح يديد”. - “الصفّار” كان يمر على البيوت يجلي أدوات النحاس، ويلمعها، ويعيد لها بريقها الجميل، كانت بعض القدور والمراجل الكبيرة تتسع له، فيدخلها ويظل يفرك بقدمية بصورة راقصة تجعلك تتوقف عنده، ولا تمل، ولا هو يعيا. - “الحواي” كان يطوف بالحارات جالباً البضائع والأقمشة والعطور، يتوقف عند بيوت المنازل، وتظل النساء تقلب بضاعته، وتفريها، وتساومه على أسعارها، ومرات يبيع بالدين عليهن، كان صوته مميزاً، وهو ينادي على بضاعته في أزقة تلك الحارة الطينية. - مشترو الفضة والنحاس، وهؤلاء كانوا يمرون عابرين، لا يدفعون نقوداً مقابل ما يأخذون من فضة قديمة أو نحاس صدئ، إنما يقايضون بأشياء أخرى مصنوعة من الفضة والحديد والنحاس، ويستزيدون نقوداً فرقاً للمصنعية، كانوا يأخذون قدراً أو دلة من نحاس أو أسلاك كهربائية نحاسية أو بدلة قديمة مخدومة على سروال أو زريّ فضي على ثوب نسائي، أو طبلة قديمة أو مرّيه مقطوعة، ويبيعون الختم والمشغولات الفضية، والديسان - جمع داس- أو خصّين أو عتلة أو محش أو حتى الخناجر. - الحداد، كان دكانه الصغير المغبش بالروائح والدخان، والخردوات، ورائحة الكير، وهو ينفث في النار الحمراء، وذلك الحديد المذاب، والمقبض والمطرقة التي سرعان ما تحول الحديد لأشياء مفيدة للناس، بعد ما يطفئها في الحوض الصغير، محدثة ذلك الصوت المميز لحظة التقاء النار بالماء. - الحجام، كان يسترزق في أيام معدودات في الشهر، وأيام معلومات في الأسبوع، يطوف بحقيبته القماشية الشبيهة بالخرج الصغير أو المخلاة، فيها قرون مفرغة، وعلى رأس القرن سدادة من القطران، ومبشط أو موس، ولفائف قطن وعايدين، وربما ميسم أو رزّة للوسم، إذا ما تطلب منه أن يوسم أحداً ذلك النهار. amood8@yahoo.com