حفل الشعر الجاهلي بكيانه عبر منظومة الزمن، ولم يتبعثر بالصحراء بل حفظته، واطمأنت إليه مثلما تطمئن لهطول المطر وإن طال أو طوت غياهب الأيام فصوله. الجميل أن الدراسات حول الشعر العربي لم تذهب إلى ما قبل الجاهلية، وقد تجسدت تماماً بالشعر الجاهلي كمحتوى ثقافي وحضاري عربي، وظل الشعر العربي ما قبل ذلك مفقوداً، وما بعدها إرثاً مهماً يحمله التاريخ عن العرب، فالحضارة العربية القديمة لم تكن ماثله إلا في كيانها الشعري، فكان مدلول الأمة العربية إلى الحضارة الإسلامية. أرادت القبائل العربية أن تمجد اسمها وكان لها ذلك عبر شعرائها، فما أن يولد لها شاعر حتى تحتفل بالمجد العظيم، فمنها قبيلة ربيعة وقيس وتميم وقحطان، وحين نذكر قبائل الشعر لا بد أن نعرج إلى شعرائها المهرة، شعراء الحكمة والفروسية، ويقال إن الشعر لسان العرب، وضمن حقبة الجاهلية لا قول يعلو على نظم الشعر، فكيف يندثر الشعر الجاهلي؟ ومن رواده امرؤ القيس وعمرو ابن كلثوم وعنترة العبسي وزهير ابن أبي سلمى، شعراء عظام تفاوتت بهم الحقب الزمنية، إلا أنهم ضمن الانتماء الأكبر إلى عصر الجاهلية الذهبي. وحين نتحدث عن التاريخ وكيفية نقله كل هذه التفاصيل الدقيقة عن عصر الجاهلية وعن الشعر بالذات، نتحدث عن الرواة الذين كانوا يتمتعون بثقافات شعرية وفطنة بدوية، ولم ينقل الشعر فحسب، بل نقل المحتوى الشعري برمته، ونقلت الصورة الشعرية والملامح الحياتية والتاريخية، مما أعطى للشعر جمالية ومتعة ثقافية، فالرواة غالباً هم الشعراء أنفسهم يروون عن من قبلهم إلى بعدهم لتستمر سلسلة الذاكرة كمدار ثقافي صادق، فمثلاً جميل بثينة روى عنه كثير عزة، والأعشى روي عن السيب ابن علس، ويأتي حفظة المعلقات ممن أتحفوا الحياة بذلك الفن البديع، ليستمر الرواة إلى ما بعد الجاهلية حفظة لأشعارهم في العصر الإسلامي حتى بدأ عصر التدوين. وكلما تغلغل الزمن ظل الشعر الجاهلي يحمل قافيته، ويسطر إرثه الحضاري على الحياة الثقافية العربية والعالمية، وهذا يظهر انعكاس الفعل الشعري وسماته الراقية ضمن الموروث الأدبي العربي، ولم يكن للعرب إرثاً سواه ليتصدر عبر أسطورة الصحراء، ولم يكن أجمل من اللغة العربية في حمل البيان الشعري بكل تجلياته وخصوصياته، هذا البيان المتسع من الفكر والحكمة، وحالة العشق والعفة في الطرح والاتزان الخلاق للشعر، البيان السحري الذي عرف العالم بالشعر العربي وقرب ما بين مفهوم الجاهلية والسياق نحو الحضارة. حين نتحدث عن الشعر الجاهلي لا يمكن أن نتجاوز الشاعر الجميل امرؤ القيس من حيث العطاء الفكري والإبداعي، حندج بن حجر اسمه الحقيقي، نجدي المولد، وكان أبوه ملك بني أسد وخاله الشاعر المهلهل وكان ينهل منه الشعر، عاش امرؤ القيس بين حقبتين، أولها الشباب الملهم بالفروسية والغزل وتشكل ضمن مجموعة من الصعاليك، وعاد إلى الحقبة الثانية بعد موت أبيه قائلاً قولته المشهورة: ضيعني أبي صغيراً وحملني ثأره كبيراً ولا صحو اليوم ولا سكر غداً.. اليوم خمر وغداً أمر..