ينطقُ الفيلسوفُ بصوت الحقيقة سراً، يردده على مسمعٍ خفيّ في العزلة المحاطة بالصمت. لكن صدى الحقيقة يظل يتردد في أعماقه إلى أن يتحول إلى كلماتٍ شقيّة ورموزٍ نافرة وإشارات عشواء. وحين يخرج الفيلسوف إلى القرى والمدن، لا يرى للحقيقة وجها، وسيظل يفتش عنها: في سعادة البشر المهملين على الأرصفة في اطمئنان الحمام على فوهة مدفع في تعفف الكلب عن أكل العصافير وفي وصول السلحفاة أولا يدرك الفيلسوف أن الشك هو ما يدفعه للنبش في الكلمات القديمة بحثا عن معنى جديد، وأن السؤال هو الأفعى التي تتسرب كل ليلة إلى فراشه وتمنعه من الخلوص إلى نتيجة واحدة يفهم بها معنى الوجود ومغزاه وسرّه. وحين يغرقُ في سكرةِ النوم الخفيف، يرى أحلاما لم يرها أحد من قبل: كلمةٌ تمشي تجر جبلاً شاعرٌ يسبحُ في ورقة وردةٌ بيضاء تتفتح فوق رماد الحرب وملائكةٌ يبكون في عرس الندم والفيلسوف يهرول في الدروب ممسكا رأسه قبل أن ينفجر من شدة الأفكار. يتوقف قرب الموسيقى فترتاح روحه قليلا ويشم فيها عطر العذوبة وسلاسة التمازج والانسجام. لكن طبول الحرب تدق في وجدانه ويزأر صداها من بعيد فتربك هذه اللحظة الخالدة، وتمزّق الزمن إلى فُتاتٍ وهشيم: الساعةُ تدقُّ في الفراغ والموتُ يضحك الأيامُ تكرارٌ واجترار والعمرُ بوصلة متوقفة وبلا اتجاه يغمضُ الفيلسوف عينيه بمنديل أحمر، يربط لسانه بعقدةٍ لا يفكّها إلا القطع بالسيف، مختاراً أن يضع القيد في يديه والسلاسل في رجليه مواجها الجدار لعل في ذلك خلاصه. لكنه في عقله سيظل يصرخ: لو أعرف الحقيقة، لو أرى وجهها ساطعا في الخيال لقلت كفى، لا أحب الظلال لأنها لا تُلمس، ولا أحب الأقنعة لأنها تسقط في النهاية ويكون وراءها، بعد طول انتظار، قناعا آخر. خذي بيدي واغسليني في النهر جففي كلماتي من الخرسْ أنا، مجرّد قلم يمشي برجلين كرةٌ مدلّاة وسط جرسْ akhozam@yahoo.com