اليوم، فضلت الجلوس في مقهى الساحة ومراقبة الصغار، كانوا أربعة صبية ملونين بالفرح والضجيج، ابتساماتهم شهية وثيابهم تفتح للصيف نوافذ، وللربيع طاقات بهجة، إنهم أكثر حظاً بالأمان والسلام الذي يحيطهم. لاحت أمام ناظري صور أطفال أغلقت عنها شاشة التلفاز قبل قليل لأنني لم أستطع احتمال مأساتهم، تلك الأجساد المتخشبة الملقاة في كل مكان في غوطة دمشق، لا يمكن لإنسان يدعي امتلاك شيء من الإنسانية أن يعيد النظر إليها مرتين، فكيف تمكن شخص ما، حاكم ما، نظام ما، أن يطلق على أصحابها آلة موته ليحصدهم بدم بارد.
انتفض قلبي هلعاً، فنفضت رأسي علني أزيح الصورة القاتلة. قلت: لم يعد في إمكانهم أن يقتلوا أكثر من ذلك حتماً فهذا آخر مدى البشاعة السياسية.
جاء خامس الصبية يتأرجح جسده النحيل على زلاجة ملونة، كان يحمل كيساً دس يده الصغيرة فيه ونثر الحبوب في الهواء فرحاً.
فجأة، ما عدت أميز بين الصغار وبين حمائم الساحة، حطّ الحمام على الأرض وانهمك يلتقط الحبوب بحركته الناقرة في الأرض. وبينما جلس الصغير على الكرسي ساهماً، سار فكري بعيداً، حيث حمائم ساحة المسجد الأموي في دمشق، من حول الحمام فيك يا دمشق إلى جثث تحصد بالكيماوي؟!.
ألا يصير الأطفال طيوراً يتحولون بعد موتهم، ماذا تقول تلك الطيور السابحة في جنات الله الآن؟، كيف تنظر إلى برودة عقولنا وانعدام ضمائرنا؟، كيف تتأمل القتلة؟، كيف تشير ببراءة إلى وجوه المجرمين؟، فهل بإمكان “العهر السياسي” أن ينجب مجرمين أكثر قسوة؟.
انثالت حمائم الفضاء أمامي، تكاثرت، غطت الساحة، صارت تتلاعب على رؤوس الصغار ببراءة، تتزاحم بشقاوة على التقاط الحبوب، بينما الصبية هادئون يتأملون الحمائم تلتقط طعامها مبتهجين، لأنهم اكتشفوا في أنفسهم أمراً جديداً، إنهم قادرون على جعل الطيور تهبط من علياء الفضاء إليهم.
ذلك اكتشاف غريب بالنسبة للأطفال، كيف تجعل “الآخر” يأتيك دون موعد، يحط على يديك دون سابق معرفة، يطعم قلبك البهجة بينما تطعمه أنت لا شيء سوى الحبوب، ثم يعبث معك بأمان من لا يخشى غدرك ولا خيانتك، بينما تتأمله أنت لأنه منحك متعة هذا الاكتشاف، لن ينسى هؤلاء الصغار درس الطيور هذا أبداً.
استكانت الحمائم للصغار، ما عادت تتقافز خشية أزيز الزلاجات وضجيج الدراجات، هناك أمان حط في المسافة بينها وبين الصبية المبتهجين بصداقتها المفاجئة، الأمان الذي منحه أطفال غوطة دمشق لنظام افترضوا أنه وجد ليحميهم، لوطن صدّقوا أنه يجب أن يحبهم قبل أن يهتفوا باسمه ولعلمه، ولعالم لطالما تغنى بالقانون وحقوق الإنسان والأطفال، هؤلاء لم يحظوا بفرصة هذه الطيور التي حطت، التقطت الحبوب بمناقرها الصغيرة ثم رفَّت بأجنحتها وتوارت بين الشجيرات في ظل ظهيرة هادئة حلوة.
في الحياة متسع للجميع، للطيور ولكل الحمائم، وللصغار بثيابهم الملونة، وأولئك الذين كانوا نائمين في بيوت غوطة دمشق، للشحاذين وأصحاب الثروات، للأنظمة الشرسة وفقراء الأرض، للمتسكعين على أرصفة الأحلام، وللحالمين بكراسي الحكم والملك.
لكن، تبقى تلك نظرية تافهة بالنسبة لبعض من يعتقد أن الحياة لم تخلق لتجمعه بالحمائم والأطفال، وأن هؤلاء الأطفال لا محل لهم في جملة دمشق.
دمشق التي احتملت جيوش المارين عبر التاريخ منذ أزمنة قديمة، دمشق التي صافحت كل الأيادي وكل الفاتحين والمنتصرين والمنهزمين والطامحين والمغتصبين والشحاذين والحالمين، دمشق اليوم يراد لها أن لا تحتمل ابتسامة حمائم وصغار، يراد لها أن تشتغل طيلة النهارات بحفر القبور فقط!


ayya-222@hotmail.com