نعود إلى شاعر الحمراء الطروب ابن زمرك (ت 797هـ/ 1395م)، لنجد موشحته الثالثة مفعمة بعنفوان الشباب ومضمخة بعطر الحنين إلى مدينته الفاتنة خلال رحلته إلى المغرب، حيث يقول في مطلعها: أبلغ لغرناطة سلامي/ وصف لها عهدي السليمْ فلو رعي طيفها ذمامي/ ما بتّ في ليلة السليم تجسيد المدينة باعتبارها المعشوقة من ابتكارات الأندلسيين البارزة، تقابله أشعار أخرى بالإسبانية للموريسكيين الذين بقوا في ديارهم تمثل المدن أرامل حسان يرفضن الزواج بالفرسان الغزاة. وقد تناولت نماذج منها في أول كتيب أصدرته منذ أربعة عقود باسم "من الرومانث الإسباني"، لكن الشاعر هنا يتلاعب بلفظ من ألفاظ الأضداد في العربية، وهو "السليم" إذ يأتي في البيت الأول بمعنى الصحيح المصون من العهود، وفي البيت الثاني بمعنى الملدوغ المسموم بالعقارب، فلو حافظت المدينة على عهد الشاعر كما رعاها لما بات ملدوغاً مسموماً في مشاعره، بيد أنه لا يلبث أن يتدفق في استحضار هذه المشاعر تجاه مدينته المحبوبة قائلاً: كم بتُّ فيها على اقتراح/ أعُلُّ من خمرة الرضاب أدير منها كؤوس راح/ قد زانها الثغر بالحبَابِ أختال كالمهر في الجماح/ نشوان في روضة الشباب أضاحك الزهر في الكمام/ مباهياً روضة الوسيم وأفضح الغصن في القوام/ إن هب من جوها نسيم اللافت في هذه الأبيات هو تصويرها لاندماج صوت الشعر في الطبيعة وتمثيله لعنفوانها وخصوبتها وفتنتها، فهو يستغرق في نشوة الفتك والشراب وإدارة الكؤوس التي يختلط فيها الثغر بالحباب حتى يكاد يصهل من جموحه كالمهر النشوان في روضة الشباب. ثم يعمد إلى الزهر يضاحكه وهو يتفتح مُولَّا عليه بوسامته ومنافساً للأغصان في رشاقتها إذا تمايلت من النسيم. نلاحظ أن روح الشاعر وجسده قد صارا جزءاً من هذه الطبيعة الفتية الثملة المختالة بوقتها وازدهارها في حالة من الحلول المتوهج والانصهار الكلي في حضن الكون. ثم يتابع قائلاً: بينا أنا والشباب ضافٍ/ وظله فوقنا مد يد ومورد الأنس فيه صافٍ/ وبرده رائق جديد إذ لاح في النود غير خاف/ صبح به نبه الوليد أيقظ من كان ذا منام/ لما انجلى ليله البهيم وأرسل الدمع كالغمام/ في كل وادٍ به أهيم لا يلبث الشاعر أن يفيق من هذه اللحظة العارمة ليصور لنا مفاجأة عمره التي تتكرر مع كل إنسان كأنها تحدث لأول مرة، فبينما هو يرتع في ظل شبابه الضافي إذ تلوح أمارات الشيب في نوره كأنه الصبح الوليد الذي يخرجه من أحلامه، يستيقظ من ليله الأسود وتنسكب مدامعه وهو يهيم في وادي الأحزان. هذه النبرة الدرامية في الموشحة توشك أن تقدم لنا مشهداً تمثيلياً موازياً لما كان يقام أمام الكنائس في بقية العواصم الأندلسية التي خضعت للإسبان من عروض مسرحية رمزية التقطت منها الموشحة النسق السردي البسيط وأشبعت به القصيدة بنفحة درامية.