نمر ببعض الأمكنة، فتشعرنا أن هناك حياة فيها، وأمكنة أخرى لا توحي لك إلا ببرودة الصمت، أمكنة تتوهج بطبيعتها، وأخرى تسكنها الكآبة، هناك معانٍ يمكن أن توحي بها الأمكنة للناس، أمكنة تمنحك سحرها وسرها، وأمكنة تظل متحفظة، ومغلقة على نفسها. تمر بمستشفى، وفي لحظتها تلك، تختلط آهة الألم مع فرحة العيون، باب خلفه ولادة من أجل الحياة، وباب خرج منه شبح الموت بمنجله وردائه الطويل، سارقاً سر الحياة، غرف فيها بشارة، وغرف مطبقة على خسارة، زاوية تطرح بهجة اللون الأزرق الفاتح، والزهري الضاحك، وفي زاوية ثمة كفن أبيض، وزهور بنفسجية داكنة، ونساء تتشح بالسواد والنشيج. تمر بفندق، فتشعر لحظتها، بابتسامات في البيت الطارئ، لمُلاّك طارئين، لأيام عجلى لا تتوقف، ابتسامة لرجل جاء ليقتنص صفقة، وابتسامة لرجل تجمل لمرور امرأة بقربه، ابتسامات موظفين مدربين عليها، ابتسامة مُرّة لرجل ملّ من التسويف، ووعود مواطن بأعمال مربحة، ابتسامة مدفوعة لامرأة لا تبتسم مجاناً، ابتسامات سيراميكية تظل طريقها للقلب. تمر ببنك، فتشعر لحظتها، أن خلف أبواب البنك الباردة، وأثاثه الزجاجي الخادع، وربطات عنق موظفيه غير المنتقاة بعناية، مقايضات غير عادلة، واستغلال مسكوت عنه، وحاجة فعلية لتلك الأنواط ذات الرائحة المصرفية المميزة، وان المكان غير خال من الحسد، والرحمة لا تسكنه، وأن كل إنسان معرّف برقم، إما زائد أو ناقص، وان للمراباة مظهر “الجلي” الأحمر المهتز. تمر بـ”مول” كبير، فتشعر أن لصباحاته ندى العطر، وتلك الرائحة الباردة التي تسكن بعض محلاته، وطبقة أرضيته اللامعة، تسير فيه امرأة إنجليزية نشطة استحمت للتو، تنضح مساماتها بعبير الصابون، وفتاتان بكعب عال تتسوقان، يبدو أنهما كانتا مشاريع لعارضات فاشلات، وعرفن أن الحياة قصيرة، والأحلام كبيرة، رجل يعشق القهوة والصحف المجانية، ومتعة جلوس المتقاعد لقياس أوزان النساء الصباحيات، مسافر يعشق الإلكترونيات بكّر يزور أكثر من مكان لشراء أشياء يعدها وحده ضرورية، طالبات في كلية واحدة تواعدن أن يفطرن في المقهى الفرنسي، شاب يتلفت بنظارته الشمسية، وكندورته الضيقة المملة، وعطره الثقيل على الكبد، وبتلك الهواتف واللحية المخادعة لنساء غنيات، سرعان ما يشعرن بالضجر. - تمر بعمارة قديمة، فتشعر أن عبء الرطوبة ينغل فيها، وأن رائحة المجارير تتنفس من خلال جدرانها، وأن لبعض الأثاث وبر العفن، وأن هناك ثمة خيانة ترتكب، وأن امرأة ظلت باكية طوال الليل من معاملة زوج تعصره الدنيا، وأن هناك عازبا يكاد يقتله سم ظهره، مفتن بالتليفزيون، وبصور الممثلات الممتلئات، ويكاد لا يبرأ منها، ومن رجسه، ثمة مسروقات متراكمة تنتظر تصريفها، وثمة ممنوعات مخبأة تنتظر توزيعها، في تلك العمارة القديمة للشيطان أكثر من صديق. amood8@yahoo.com