في رده على الديمقراطيات الناشئة في أوروبا في القرن العشرين، كان الشاعر الفرنسي بودلير، يتحدّث عن الجمال الفني، وبحسب رأيه فإن الجمال نسبي ولكل مجتمع خصوصيته، كما هي الديمقراطية التي لا يمكن لقماشتها أن تلائم أي جسد اجتماعي. ولو عاش بودلير إلى يومنا هذا لضرب أمثلة واقعية في حياتنا المعاصرة، فهناك مجتمعات شقت قميص الديمقراطية من دبر، وطارت بالفكرة الديمقراطية حتى طالت أجنحة السحاب، لكن الواقع بقي كما هو، ولنرى واقع دول مثل بنجلاديش، وسيريلانكا وأخرى في أميركا اللاتينية هذه الدول لها مجالس انتخابية، وأحزاب وشعارات لا أول لها ولا آخر. ولكن ماذا بعد.. هذه الدول لم تزل، تستقر في ذيل القائمة بالنسبة للدول المنتعشة اقتصادياً، إضافة إلى معاناتها من الفقر والمرض والأمية، والتخلف الثقافي. إذن ألا يجوز لنا أن نحيي هذا الشاعر، الحالم بالحب قبل الحلم بالشعارات الباهتة؟ إنه تنبأ وها هي تنبؤاته تسفر عن حقائق على الأرض فكل دول الثورات العربية التي أطاحت بحكومات وصفتها بالديكتاتورية، تعيش الآن مرحلة الفوضى، والتهشيم الذاتي، وتدمير البُنى الاجتماعية والثقافية، لماذا؟ لأنها قررت قبل أن تفكر، وفكرت فيما هو خارج إطار المنطق الواقعي، فوقعت على الأرض فاقدة الوعي، محطمة الوجدان والجدران وليس أمامها سوى الخواء الأيديولوجي الفج. تاريخ أوروبا ما بين النصف الثاني للقرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، يجسد حالته في الوطن العربي، ويعيد دروسه الفاشلة إلى ساحة تشهد الآن عراكاً، دموياً من أجل تحقيق فكرة واهية، لا علاقة لها، بمتطلبات الواقع. ما يجري الآن عبثية وجودية الهدف منها البحث عن ذات ضائعة تحت أكوام من تراكمات ثقافية عتيدة وعنيدة.. ولأن الخلط جارٍ في مسعاه الغلط فإنه حتى الذين تضرروا من إسفاف واستخفاف التطرف، وقعوا في نفس الفكرة الخاطئة عندما أطلقوا على المتهافتين «بالإسلام السياسي»، ولا أعتقد أن من علاقة تربط العبثيين والعدميين، لا بالإسلام ولا بالسياسة، الأمر الذي يستدعي منا الوعي بما نطلقه من مصطلحات، فالإسلام سياسة، واقتصاد، وثقافة، وعلم، وفلسفة، فكيف يمكن أن نفهم من سلوك عدمي عبثي، انهزامي، أنه «إسلام سياسي»، وكيف نفسر سلوك من يطالب بالديمقراطية، وينفذ أساليب أحادية حادة الزاوية، والحوار مع الآخر يعتبره كفراً. فهل يا ترى هذا هو الإسلام السياسي، أم أنه سلوك خارج من غابة التوحش، مغطى بشعار ديمقراطي، لأجل تمرير أجندة الضواري وأكله لحوم البشر.. نعم بودلير حسم أمر القضية برباطة جأش ولم يراوغ ولم يساوم، ولم يخش لومة لائم في قول الحقيقة.. أما نحن فما زلنا نقع في مستنقع المصطلحات ونمني النفس بالأمل، في مرحلة لا تحتاج إلى أحلام بقدر ما تحتاج إلى وقائع وعلم، يكشف الحقيقة كما هي، لا كما يتخيلها الحالمون. Uae88999@gmail.com