حينما تحيد الثورة الوطنية عن مسارها، ويتم خطفها من أيدي أحرارها، تنقلب الأمور، وتختل الموازين، وتصبح بوصلة الوطن المنشود في مهب الريح، وتضيّع اتجاهاتها.. هذا باختصار ما يجري في بر مصر اليوم، فثورة الشباب، وتطلعاتهم لمستقبل مختلف للوطن والناس تم جرّها من الشارع النابض بهم وبآمالهم وأحلامهم، وحصرها أمام باب ضيق لا يتسع إلا للتعصب والتحزب، وخندقة الإيدولوجيا، وحب الإقصاء، وتهميش المختلف، يعد الشارع مظهراً حضارياً للاحتجاج، والتغيير، وحق التظاهر السلمي، وتمارسه الشعوب الواعية بمصيرها، وحقها الوطني، لكن أن يتحول هذا التظاهر إلى حشود، وإلى عنف، وإلى تعديات أخلاقية، وتهديدات بالموت، وحمل السلاح، فمعناه أن الأمور خرجت عن عقلانيتها ومشروعيتها، وغدت تسمى تظاهرات مسلحة من أجل التغيير بالقوة، أو فرض أمر واقع بالشدة، وخارج حسابات نظرية تطور الأمم ورقي الشعوب، وهو ما يعني أيضاً جلب الدماء إلى الشوارع، وتخريب الممتلكات، وإرهاب المواطنين، وجعل الثورة تنتحر في مكانها الذي هو الشوارع التي كان الناس يسلكونها بحرية، من أجل الحرية، وبأمان من أجل الأمن. إن الأطراف والخصوم حين يسعون لتفريغ الدولة من هيبة أمنها، وشرف المحافظة على المنجزات والمكتسبات الوطنية، إنما يبغون الفوضى، واغتنام الفرص للنهب المادي والمعنوي، خاصة في ظل تعتيم إعلامي يسوده الكذب والضبابية، والتناحر على البيانات السياسية، ودفع وسائل الإعلام لتكون أداة في يد الخصماء السياسيين، ليشعلوا المكان بمزيد من الخراب، فالإعلام المصري اليوم عاجز عن مخاطبة الآخر في الخارج، ومرتبك في التواصل مع الآخر في الداخل، تظل اجتهادات أغلبها يحمل عبء الأخطاء غير القابلة للحلول الجذرية، وبالتالي ضياع الخطاب السياسي المصري الوطني الذي يمكن للعالم أن يتفهم المسألة، ويساهم في إيجاد حلول بديلة، ودعم الاقتصاد المصري المنهار بطرق مختلفة، من دون ذلك ستبرز تيارات المصالح، والمنافع الذاتية، وقناصو الفرص لاقتسام هيبة الدولة، ومدخراتها، والتلاعب بمكتسباتها. الأمر الآخر ذو الأهمية لما يحدث في بر مصر، وتزعزع أوضاعها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، هو محاولة بعض الأطراف المتخاصمة إضفاء “الشرعية” و”القدسية” على مطالبها وضحاياها، وبالتالي السماح باستعمال كافة الوسائل الممكنة، للتمكن من إقصاء الطرف الآخر، المغاير سياسياً ودينياً وفكرياً، بما في ذلك استعمال الكذب الإعلامي، والتدجيل البلاغي باستخدام توريات النص الديني، أو ما يمكن أن يسمى إرهاب النص الديني في معارك تحدث في الشوارع، وداخل المنازل. إن ما يجري في بر مصر اليوم.. هو تمام النقيض بين فرحة ملائكة الرحمة بالولادات من أجل الحياة، وبين كآبة وجه حفّار القبور باتجاه العتمة والظلام البارد! amood8@yahoo.com