في العيد تتذكر زمانك وزمان غيرك فتجد الفجوة واسعة، بحجم الجفوة التي سكنت القلوب واستوطنت مكاناً شاسعاً من الروح، تشعر وكأن كتلة جحيمية ضخمة ضربت الأرض، فغيرت الملامح، وسيطرت على مشاعر من تحب أن يكونوا كما كان الأولون يمارسون فرحة العيد بروح عالية ونفس مطمئنة، وقلب ممتلئ بأعشاب الفطرة.. تتذكر أشياء وشخوصاً، فتدهمك علامات الاستفهام التي صارت بمساحة هذا الفراغ الذي مد أذرعاً أسطورية مرعبة، تتذكر ولا تملك غير أنك تمسك بزمام ماضيك وما كنت عشته وما احتل تضاريس القلب. تتذكر لأن زمانهم ليس زمانك، والمكان أصبح مثقلاً بأغلال فجائيات مذهلة، لا تستطيع أنت ولا قلبك هذا المفعم بزجاجات مهشمة، أن تقف أمام العربة السريعة وتقول لها، قفي نبك على أطلال فالطريق وعر والصحراء مزكومة بعواصف ترابية والبحر يعاني روماتيزم المفاصل والأزقة التي كانت بوسع الصدور أصبحت كثقب إبرة، لا تحتمل وطء قدم لطفل صغير غض. تتذكر وأحلامك أشبه بمرآة قديمة غشتها تشققات، وغبار، تتذكر ومشاعرك، كدراجة هوائية عطبت عجلاتاها، فمالت على جانب الطريق، تتذكر ونفسك كعصفور حبسته أيد خفية في جوف زجاجة حتى اختنق صوته، واختفى بوحه، فصار يحرك جناحين، متعبين بلا جدوى. تتذكر «المريحانة» القديمة، وأغنيات النساء، المدهشات، فلا تجد غير حبال مطوية في زاوية قصية من الزمن، والنساء ذبلت شفاههن وتحشرجت أصواتهن، وغشت عيونهن سحابة بيضاء كسحابات الصيف. تتذكر الرجل الأشيب، الذي كان يلعب «الزبوت» مع الصغار بعفوية أرق من وريقات الزهر، وأنصع من بياض النهار، تتذكر إزاره الأخضر المخطط بالأبيض والأسود وقميصه القطني الأبيض فلا يعبأ بنهار العيد إلا بوجوده بين أطواق الفرح، وأبواق الشفاه الصغيرة، والزعيق الأشبه بزقزقة العصافير. تتذكر لأن الذاكرة لا تطوي سجلها عندما تكون حروف كلماتها مكتوبة بحبر زمن جميل وأصيل ونبيل، تتذكر وكأنك تقرأ كتاباً مفتوحاً على تاريخ حضارة، سادت ثم بادت ولم يبق منها سوى المآثر والأثر، وما تأثر به الوجدان من وديان فاضت حتى تشبع عشب الروح، وأصبح بقامة التزامك الأخلاقي بما مرَّمن هنا وأصبح جزءاً لا يتجزأ من بنيان النفس وبيان العقل، تتذكر والذكرى تنفع وتشفع وتسطع وتدفع عنك الإحساس بالانهزامية والتهرب من جريان النهر عند جدران بيتك. تتذكر، والذكرى، لون من ألوان التأمل، وفي التأمل صياغة لعالم، قد يمضي باتجاه معاكس للريح، إلا أن إصراره على ذلك يعني أن ترك المشاعر في عربة تجرها الريح، قد يؤدي إلى تراكم الكثبان الرملية على النفس، ومن ثم فقدان السيطرة على وقود العربة. تتذكر لأنك لا تزال تحتفظ بالصورة حتى وإن بهتت وتغير لونها، فإنها تعبر عن لحظة من العمر، كانت زاهية ومترعة، ومترعرعة، ببساتين النفس المطمئنة.. تتذكر، والذاكرة نهر أسماكه صور ومشاهد، لا يستطيع الزمن أن يغرق مراكبها. Uae88999@gmail.com