قابلت شيركو بيكه س. في المدينة/ المنفى، أو مدينة المنفيين: عرب تقطعت بهم الأوطان وفرّقتهم الملل والنحل. إيرانيون علكتهم الثورة ولفظتهم. كرد يعيشون على ضفاف كل الأوطان، فوطنهم حدودي بالمعنى الحرفي للكلمة. ذلك ليس خروجاً عن النص، في حديث عن الشاعر الكردي الراحل شيركو بيكه س. على مدى ساعة ونصف، في بيت لندني متواضع، فتح لي الشاعر اللاجئ حديثاً إلى السويد، أوراق تجربته الشعرية والسياسية. كان قد غادر للتو منصبه وزيراً للثقافة في حكومة كردستان العراق. بدا غاضباً وهو يحكي عن الصراع الحزبي والميليشيوي في بلاده آنذاك. آلمته تدخلات الأطراف المتقاتلة في عمل وزارة الثقافة، ومحاولة تطويع جهدها، كل لصالحه. كاد ينفجر وهو يحكي عن استنجاد الضحية بالجلاد (صدام حسين) في مواجهة الشريك/ الخصم. هذا المدخل السياسي، يبدو لصيقاً بتجربة شيركو بيكه س. الشعرية. تجربة معجونة بالسياسة بمعناها الوطني أو المصيري، تجعل قصيدة شيركو تخرج من أتون معركة الكرد شبه الأبدية من أجل الوجود. اختار شيركو مبكراً الانتماء للحركة الكردية المقاتلة. فحملت قصيدته اختلاجات الثوار في مغاور الجبال وشعابها. تعبّأت بكل ما يمكن أن تستلهمه من تفاعلات التاريخ وارتجاجات الجغرافيا، في بلاد امتهنت الاستحمام بدماء أبنائها كلما شهق جار أو زفر شقيق. هنا بالضبط يكمن سبب طول قصيدة شيركو، فالمعاناة المتمادية لا تكفيها إلا قصيدة ملحمية. نوع من القصة الشعرية التي أجاد شيركو كتابتها، “لأن حجم المأساة التي يعيشها الشعب الكردي، يحتاج إلى نوع من المطولة تستوعب تلك المأساة”. قال لي. بين الشاعر والوزير اختار شيركو الانحياز للقصيدة. غادر الوزارة بسهولة عندما وجد إنها ستصبح عبئاً على قريحته. سيجد الشعب الكردي العشرات، بل المئات، ممن يتنكبون السياسة ومناصبها، لكن المعبّرين عن قضيته الوطنية سيبقون فرادى. أولهم شيركو، الذي سيكون صوت الوجع الكردي الدهري. هو الصيغة الكردية للضمير الوطني والقومي شعرياً. تماماً كما كان قبله رسول حمزاتوف بالنسبة لداغستان. وناظم حكمت بالنسبة لتركيا. ونيرودا بالنسبة لتشيلي. ودرويش وشعراء المقاومة بالنسبة لفلسطين. وهو مثل هؤلاء لم يسمح للشكل أن يصبح من المهيمنات الآسرة للقصيدة. فعلى الرغم من دوره الريادي في مسألة التجديد الشعري بكردستان، من خلال حركة “روانكة” (المرصد)، لكن الحداثة عنده بقيت خياراً إضافياً، وليس إلغائياً، للجذور الثقافية والتقاليد الشعرية. لذلك لم يكتب القصيدة الذهنية الصرفة، حتى في قصائده القصيرة، ظلت القضية الوطنية حاضرة بالمعنى الذي يعرفه الفلاح في الحقل والمقاتل في المعركة: “على مرأى من السماء سرقوا الغيم/ على مرأى من الغيم سرقوا الريح/ على مرأى من الريح سرقوا المطر المدرار/ وعلى مرأى من المطر سرقوا الثرى/ وفي الثرى دفنوا العيون التي شهدت اللصوص”. واللافت إن هذا البعد الوطني والقومي في تجربة شيركو بيكه س. لم يجعل منه شوفينياً بالمعنى العنصري. لم يحوله إلى كائن ثقافي منغلق، منقطع، أو منبتّ. تحدث معي بإسهاب عن المصادر العربية في ثقافته الشعرية والعامة. استذكر صداقاته الطويلة والعريضة بين المبدعين العرب. سجل إن اللغة العربية كانت الباب الذي دخل منه إلى الثقافات العالمية. قال بالحرف: “إن جذوري الثقافية في كردستان، ولكن فروعي وأغصاني ترعرعت ونمت في بغداد”. يعرف تماماً إن الشعوب لا تتحمل ارتكابات الأنظمة. قال لي شيركو إن قصيدته كالمطر تنحسر وتنهمر.. هذه المرة انحسر هو وبقيت قصيدته مدرارة. adelk58@hotmail.com