لا أزال أذكر الانبهار الذي شعرت به، وأنا جالس في ظلام سينما المحلة الكبرى، أشاهد فيلم "الملك وأنا" في الخمسينيات المتأخرة. وكان الفيلم من بطولة يول براينر الذي حصل على جائزة الأوسكار (أفضل ممثل) عن تمثيله في الفيلم، والفاتنة ديبورا كار التي حصلت على جائزة جولدن جلوب لأفضل ممثلة عن أدائها. ويدور الفيلم عن العلاقة بين الشرق الذي يمثله ملك سيام (يول براينر) وأرملة بريطانية تأتي للتدريس لأبنائه العديدين. ويبدو أنها صدمت بأنه لا يوجد مخصص لها في السكن، وأن عليها أن تسكن في القصر الملكي نفسه، وكاد غضبها يدفعها إلى الرحيل لكن حبها لأبناء الملك وبناته دفعها إلى البقاء، وتتداعى الأحداث إلى أن تقع في حب الملك الذي ينتهي به الأمر إلى ترك العرش. وقد عرفت فيما بعد أن الفيلم مأخوذ عن رواية، تحولت إلى مسرحية موسيقية ناجحة، كانت دافعا إلى تحويلها إلى هذا الفيلم الذي لم أنسه قط، وظللت أتابع أخباره إلى أن عرفت أن الرواية الأصلية بعنوان "أنا وملك سيام" نشرتها 1944 الروائية البريطانية مارجريت لاندن. وظللت أسير سحر هذا الفيلم طويل، خصوصية أداء يول براينر وجسده الممشوق، ورأسه الحليق، وثياب الملك المبهرة، في موازاة جمال ديبورا كار وفتنتها ورشاقتها. وكان لقاء الشرق ممثلا في ملك سيام والغرب ممثلا في الأرملة (المعلمة) البريطانية مبهرا، وقصة الحب رومانسية، دخلت قلب المراهق الذي كنته في الخمسينيات، ولم تخرج منه طويلا. وظل الفيلم على سحره في وجداني إلى أن أكمل المراهق دراسته الثانوية والجامعية وتدكتر، وذهب في عام 1977 إلى الولايات المتحدة، وهناك انفتحت له أبواب مذاهب نقدية ما كان يعرفها. ومن هذه المذاهب خطاب ما بعد الاستعمار أو خطاب نقد الأيديولوجيا الاستعمارية الذي لعب فيه كتاب إدوارد سعيد دورا كبيرا؛ فاختلفت نظرتي في النقد الأدبي، ووضعت كل مسلماتي النقدية موضع المساءلة. وشاءت المصادفة أن أرى فيلمي القديم معروضا في أحد مدرجات جامعة وسكنسن ضمن أنشطة الطلاب الفنية. ويا للصدمة التي شعرت بها، انقلبت الرومانسية الحالمة إلى تحليل نقدي، يضع الإعجاب القديم موضع المساءلة، فإذا بالفيلم دعاية استعمارية، وخطاب استشراقي عن الشرق العجيب الغريب، وإذا بالغرب هو التقدم الأوروبي الذي يذهب إلى الشرق المتخلف متمثلا في المعلمة التي مهمتها أن ترتقي بعقل الملك الذي يأبى له عناده أن يفارق تخلفه، فيترك ملكه في النهاية إلى ابنه الذي نجح في تمثل دروس المعلمة؛ فأصبح رمزا لمستقبل الشرق الذي ليس له خلاص إلا بالاتّباع والتبعية الكاملة للغرب. وضاع السحر إلى الأبد.