لا تتداخل دراسات الاستقبال مع نظريات الهرمنيوطيقا فحسب، وإنما تتداخل مع ما نسميه نقد النقد، أو دراسة النظريات النقدية، وهي في حالة الفعل أو الممارسة التطبيقية. وأذكر أن اهتمامي المبكر بهذا الجانب في تفاعله مع مجالات الهرمنيوطيقا أو دراسات التأويل أو التفسير، قد دفعني أن أتوقف عند نقاد نجيب محفوظ في مطالع الثمانينيات في القرن الماضى. وقد كتبت دراسة بعنوان "نقاد نجيب محفوظ" نشرتها مجلة "فصول" في عددها الثانى، إن لم تخني الذاكرة. وكان لهذه الدراسة التي ترجمت إلى الإنجليزية تأثيرها الرائد. وأذكر أن صديقنا علي بن تميم بدأ من هذه الدراسة، ومضى في اختبار فرضياتها، ومتابعة إمكاناتها، فكتب أطروحته للدكتوراه، تحت إشراف صديقنا خليل الشيخ في الجامعة الأردنية. وقد أرسل لي الصديق علي بن تميم نص الأطروحة قبل مناقشتها، طالبا ملاحظاتي حولها، ولكن للأسف حالت شواغلي العديدة في ذلك الوقت عن الوفاء بما طلبه مني، وما كان واجبا عليّ، ولكن الأطروحة قد أجيزت، وتكرم علي بن تميم بإهدائي نسخة منها بعد طبعها في كتاب. وقد سعدت بها جدا، خصوصا بعد أن لاحظت أن الكتاب قد أضاف إلى دراسات التأويل أو نقد النقد التي كنت أعتمد على معرفتي بها، في ذلك الوقت البعيد، دراسات التلقي الألمانية التي لم أكن أعرفها معرفة كافية في مطالع الثمانينيات. ولذلك كانت كتابات ياوس وإيزر الألمانية الجناحين اللذين أكمل بهما علي بن تميم التحليق في المجال نفسه. ويبدو أن غرامي بمتابعة اختلاف استجابات النقاد إلى عمل أدبي واحد، قد دفعتني إلى الشروع في كتابة دراسة تفصيلية عن اختلاف النقاد حول تناول عمل واحد لنجيب محفوظ، هو "اللص والكلاب". وكان أساس التقسيم هو اختلاف الاستجابة النقدية باختلاف النظرية الأدبية التي يعتنقها الناقد في التحليل. وقد أدركت في ثنايا العمل في هذا المجال النوعي أن الأمر لا يتوقف على النظرية الأدبية في إجمالها أو عمومها، وإنما في عمق إدراك الناقد لها من ناحية، وكيفية تحويل الأنساق التجريدية للنظرية إلى ممارسات تطبيقية من ناحية مقابلة. وكنت ألحظ أن هذين الجانبين يكتملان بما أسميه الموهبة الخاصة للناقد التي تجعله يرى أعمق وأبعد مما يراه قرينه المؤمن مثله بالنظرية نفسها، لكنه لم يتمكن من امتلاكه بما يكفي لكي يعيد إنتاجها على نحو خلاق. وللأسف كانت الأحكام القاسية التى انتهيت إليها دافعا إلى عدم نشر هذه الدراسة التي ظلت مخطوطتها الأولية ضمن بقايا البحوث التي لم أكملها أو أنشرها لسبب أو لآخر.