الذكاء والفطنة قسمة ونصيب، وعندما ولد ابن أخي لم أفكر فيما سيؤول إليه من سرعة بديهة أو حنكة ولكنه جاء -بقدرة الله- فارضاً سيطرته على الأيام فلم يأت في الموعد المحدد لولادته وحتى في الحدود البعيدة لذلك الزمن ولكنه ممن نقول عنهم في لهجتنا المحلية «طايح قبل يومه». وفي أيامه الأولى على هذا الكوكب دار بالخير في صراعٌ صامت للبقاء عاشها في زجاجة حجبته عنا وعن ملوثات العالم ما ترك لعقله مجالاً للبحث عن أسرار الكون وكأنه بمثلنا الشعبي «فؤاده طايح قبله». ودارت الأيام وعندما رُفِعَت عنه الحصانة، اختار الصمت لفترة طويلة فلم ينطق بكلمة «بابا» أو «ماما» التي يستغلها من في سنه لكسب الود والوداد ولكنه وبهدوء بحيرة البجع تجاهل مفردات اللغة فهي قد تضع عليه مسؤولية الحوار وتبادله وربما تحكم عليه بصوابها وخطئها فتخصص في لغة الإشارة. وفجأةً تحدث! صار يركب الجمل بكلمات منتقاه من الجِناس، والاقتباس، والتطابق، والسجع، والمجاز، والتشبيه، والكناية، والاستعارة لا يدخر علينا من ذلك كله شيئاً. ذات يوم اشتريت هاتفاً جديداً فجلس بقربي «يتحرقص» ثم قال: «عموه، عادي ألعب بتليفونك؟» فأعطيته علبة العجائب بمكنوناتها وأنزوى يلاكم ويهش وينش ويحاور من لا نعرفهم في الطرف الآخر. وكان يلعبُ وعينٌ تراوح مع شخصيات لعبته الإلكترونية وعينٌ على خُفِ والده وما أن أدرك حركة أبيه للرحيل حتى التفت إليّ، وقال: «لازم تشكريني وصلتك المرحلة الثالثة.. عموه إذا تبين تنزلين ألعاب زيادة خبريني أعرف ريال ينزل ألعاب طرّ». في الجمعة التالية تأخر في الحضور لغداء يوم الجمعة واجتماع الأرحام وعندما حضر عاتبته على التأخير فقال مدافعاً عن نفسه: «عموه، سرنا نسلم على امايه «في المعشرة» وتأخرنا على المسجد، شو تقولين ابويه يستحي وإلا ما يستحى؟!» فهمت ما لم يفهمه الآخرون وغافلته بأن قلت له: شوف شو يبت لك.. كيكة شكلها رقم 1. فبدا مسروراً ولم يعلق على أي شيء، ولكنه طلب منها قطعة صغيرة لوالده وقبل أن نغني له قال: إنتي تحبين رقم واحد مثل الشيخ محمد، صح؟! وفي المساء وعدت «المذارج» برحلة قصيرة «لشيشة البترول اللي عدال بيتنا» ولم يكن لديه حذاء وخاف أن نذهب من دونه فقلت له: صدقني ما بنسير عنك.. سير ييب نعالك وتعال. فقال: اعطيني مفتاح السيارة أولاً. فأخذ المفتاح وسار يمشي واثق الخطوة وعاد بخفيه، وقد حدث موقف في غيابه فاضطررت تأديب الآخرين فأخذته معي دون سواه وانطلقنا. وفي الدكان صار يساوي نفسة بمن لم يحضروا فيشتري لهم مثلما يأخذ لنفسة مطبقاً لمقولة هارون الرشيد من ساواك بنفسه ما ظلمك»! فقلت أحاوره: من تحب؟ وصرت اذكر له اسماً يُعطيني مقابلة أحبها/أحبه أو لا أحبها/لا أحبه.. حتى وصلنا إلى اسم اخته سمية التي حرمت الآخرين من مرافقتنا فقلت له: هل تُحب أختك سمية؟ فنظر إليّ طويلاً وفكر عميقاً، وقال: إنتي تحبينها؟ هذا بالخير عمره أربع سنوات.. وُلِدَ ليغرد في سرب الوطن ونتطلع إلى يوم نرفع رأسنا به عالياً ليرفرف في قلوبنا علم الإمارات.. هذه تغريدة من تغاريد بالخير. bilkhair@hotmail.com