في مساءات رمضان ما بعد الغروب، تهرب النفس من عالم الضجيج إلى فضاء السكينة والصفاء والسناء، والبهاء، والرجاء الداخلي.. في هذه الأوقات يختزل الزمن في مدة ساعة أو نصف ساعة يعيش فيها الكائن الداخلي في حالة الانعتاق، من أغلال الفوضى النفسية ليدخل في خيمة الأحلام الزاهية والتخلص من متاعب ومساغب ونواكب.
في المساءات يتصوَّف الإنسان، ويعيد ما تهشم من الذات وما تمزَّق وتفرَّق يعيد تصفيف خصلات الروح، بمشط اللواعج المتهدجة المتوهجة المتهجدة الواقفة بخشوع عند باب السماء والعكوف عند قامة الكون الفسيح، بما يحتويه من معالم الأنفة والكبرياء يقف الإنسان جزعاً ورعاً خاشعاً خانعاً لذات أكبر من ذاته، تطوقه بالرهبة تحيطه بقلادة مرصوصة بحرز الجمال الكوني المذهل.
في المساءات، والقرص الذهبي يستعد لمغادرة محيطنا الصغير، تبدو الدقائق وكأنها حبّات اللؤلؤ تتدحرج عند خاصرة الزمن، وتهبه المعنى الجميل، يبدو الإحساس بزوال يوم وكأنه القفز بمظلة الفرح، إلى بساط قشيب يزخر باللون والرائحة يزهو بالاكتفاء الذي بعده يأتي الانفتاح على عالم يفيض بالابتسامة المشرقة والسعادة المتألقة.
في المساءات، الأشياء من حولك تتلاصق وتتلاحق وتتماسك بقوّة الفرح وعنفوان النشوة الإلهية وقداسة اليوم الذي مرّ مزملاً بنخوة العقيدة المبجلة، أنت الإنسان الذي قضى ساعات النهار بانتظار استسلام قرص الشمس لكي تأتلف الأكتاف، وتتحاذى الأجساد، وتنطلق البسملة من شفاه بللها الماء البارد، ولبن الحياة.
في المساءات، رمضان ليس كسائر الشهور، إنه اليقظة بعد الحلم، إنه اللحظة المتفاقمة بالأمنيات، والرغبات بعد صيام أشبه بالفطام يغالب الإنسان شظفه بأمل الجلوس على مائدة الفرح، والدعاء والرجاء والبهاء والاستواء إلى كلمة تمنح الروح طمأنينة، وتثب بالقلب نحو غايات الفوز بأعلى الدرجات.. في المساءات الرمضانية، تتغير سحنة الوجوه وتلبس النفس أساور الفرح، والعيون تتألق ببريق الحب.. رمضان يزخرف الأنا بالحب، ويغسله من أدران وأوثان، وأوزان، وأحزان، وأشجان، يبث فيه رائحة الجنّة وعناقيدها الموعودة، وسندسها وإستبرقها، وأرائك البذخ السماوي بامتياز.. في المساءات الرمضانية، يحلو أن يقف الإنسان عند ناصية الطريق، ليطل على أطباق تقتعد أكتافاً صغيرة ذاهبة إلى منازل الأصدقاء والأشقاء والأحبّة.. في المساءات الرمضانية، تجدل الشمس خيوطها الحريرية من أنفاس الصائمين العاكفين على ورعهم كالصوفية التاريخية المذهلة.. في مساءات رمضان، الكبار صغار بقلوب أرق من وريقات اللوز.


Uae88999@gmail.com