تكبر شجرة الحقيقة، ويشتد جذعها ويعلو كلما روتها البشرية بالأسئلة. يأتي المستفهمون من بقاع الأرض ليرموا تحت ظلالها حيرتهم في لغز هذا الوجود، بعضهم صامت في التأمل إلى أن يموت، وآخر يرغي ويزبد، وثالث يظل يتقلّب في المنطق المقلوب. جميعهم يجلسون طويلاً تحت أغصانها بانتظار أن ينضج ثمرها. وحين يأتي الربيع ويحين القطاف، يكتشفون أن ثمارها لا تتشابه أبدا، والذي يجد ضالته في هذا الغصن، قد يجد نقيضها في غصن آخر من الشجرة نفسها. ويظل البشر هكذا مرتبكين، منهم من يجمع أكثر من ثمرة في سلة واحدة ويدرك أن للحقيقة وجوهاً كثيرة، ولذلك يذهب لاعتناق الحياد، ويكون الشك طريقه للمعرفة ولتوليد السؤال من جديد. وآخر قد يرى جميع الثمار فاسدة إلا ما يستلذ طعمها في فمه، وهذا يذهب ليقف صارخاً على قارعة الطريق مدعياً امتلاك المعرفة، وربما حمل السيف ونزل به على رقاب الآخرين وهم نيام كي يمحو عار أن يختلف معه أحد. تحت شجرة الحقيقة يمر كثيرون، منهم من يتقلّب في الأهواء فتراه اليوم يلقاكَ بوجه السعد منتمياً إليك لو تلبي مطمعه وترضيه، لكنه في الغد، حين تقعدك الأيام في كبوةٍ ويخذلك سندُك، تراه يفر من حياتك بوجهٍ دلسٍ ولا يكلّف نفسه عناء الالتفات إلى صوتك حتى لو ناديته مستغيثا لنصيحة. وتحت الشجرة نفسها، حين تتأوّه الأفكار في رأسك وتتعطّش روحك لحرف نقيّ يشفيك، تجد العابرين يرمون إليك بخلاصة سعيهم في سؤال الحياة، ومن خبرة هؤلاء يمكن أن تتعلم أن الحقيقة ستظل بعيدة تنأى، وما من سبيل لإدراكها سوى البقاء في اليقظة فيما الناس جلّهم نيام. والبقاء في اليقظة معناه أن لا تترك لأي من النقيضين أن يجذبك صوبه، وأن تقرأ الحياة بأنها سعيٌ في إتجاهين كلاهما ينتهي بجدار أو سؤال قد يعيدك الى خطوة البداية كلما إنتهيت منه. يمر الخريف على شجرة الحقيقة ليتركها بعد لفحٍ عارية جرداء، لكنها تعود لتورق مزهوّة بألوان جديدة لم يرها أحد من قبل. أوراقها القديمة تدخل في دفتر الزمان وتصير سيرة رنّانة لمن نقشوها في عزّ انتصارهم. لكن دفاتر الزمان تُركن على الرفوف لا محالة، ويموت كتبتها وينقرضون، ثم يأتي من يعيد بعث المعرفة على هواه، هذا يطيّعها هالةً لمجده، فتراه يمحو ما يشاء من الحروف، وقد يمسح بعض الكلمات ويغير معناها في القواميس. وآخر يلوي ذراع الحقيقة لتتبعه حتى منتهاه، فاذا مات، عادت المعاني إلى أصلها الأول. تمر غيمة الحرب على شجرة الحقيقة فتمطرها بالنار، ويأتي فيضان الفوضى ليغرقها حتى يظن الجميعُ أنها ماتت، ولكن بعد أن تتطهّر الأرض من المتناحرين، يتفجّر نبع السؤال بضربة من عصا الحكيم في الأرض إلى أن تنشقّ ويبدأ ماء الحياة بالجريان فتعود تثمر بما لم يخطر على بال أحد. ينام الحكيم تحت ظلال الحقيقة يرويها بعرقه مدركا أن ثمارها تنضج كلما تعتّقت السنين. عادل خزام | akhozam@yahoo.com