لطيّب الذكر وشيخ العلماء الدكتور إحسان عباس تعابير لطيفة في تحقيقه الرصين لديوان ابن سهل، منها أنه يضع عناوين لبعض الموشحات مثل هذا العنوان “وقال في موساه”، ونحن نعرف أن الشاعر الذي كان من أصل يهودي طالما فتن بغلام جميل اسمه موسى؛ ولم يكن الغزل بالمذكر معيباً في منظور شعراء المشرق والأندلس، ولعلهم كانوا يعبرون به دون قصد عن مشاعر الأنثى المسكوت عنها، فقد كان من حقها أن تتغزل بدورها فيمن تحب، فكأن هذا الشعر قد وضع على لسانها، يقول ابن سهل: ليل الهوى يقظـان والحـــب تـــرب السهـــرِ والصبـر لـي خـوّان والنـوم مـن عينـي بــري إن “ليل الهوى” تستحق أن تسجل باسم ابن سهل، فهي قرينة “أهل الهوى” التي أبدعها بيرم التونسي فيما بعد عن أهل الفن، وكلاهما يقظان دائما، فالحب ترب السهر ورفيقه، كما أن الفن لصيق بهما دائما. أما أن الصبر كثيرا ما يخون العاشق فهذا ما ظل يحدث حتى يوم الناس هذا، كما أن النوم بريء من الاقتراب من عينيه. لكن ما نلفت نظرا لقارئ إليه هو هذه الرشاقة التعبيرية في كلمات راقصة الإيقاع، حلوة الدلالة، يستدعى أولها آخرها فتكاد تنطق بالنهايات في جمل قصيرة تغري بالغناء. ثم يقول فيما يصح أن يوجه لكل من ضميري المذكر والمؤنث: يـا روضـة الأنـس روض المنى منك جديب لـولاك لـم أمـسِ في الدار والأهـل غريـب رضـظاك للنفـس مثل الصبا الذي المشيب كان ابن سهل شاعر إشبيلية الأول، وتميزت مدينته الأثيرة بأن الرياض والجنان المنتشرة على جانبي نهرها “الوادي الكبير” كانت مضرب الأمثال، فهي التي صبغت ألوان الشعر بمعجم الطبيعة الفاتنة، وهنا يستحيل المحبوب ذاته إلى روضة أنس بمثل ما يصبح الأمل فيه روضة أخرى تجف وتجدب عندما لا يتاح له التحقيق. فالمنى بدورها روض جديب مقفر، ولولا هذا المحبوب لم يجد الشاعر نفسه غريباً بين أهله وخلانه عند افتقاده. ورضاه هو الذي يرد الروح للعاشق مثلما يرتد الصبا للأشيب المودع للحياة. ولأن هذا الغصن ـ كما يسمى في مصطلح الموشحات ـ لم يشبع نهم الشاعر فهو يكمله في القفل التالي مع تبديل الإيقاع والتقضية: والمــاء للهفــان واليســــر عنــــد العســـر وجنــة الرضــوان بعــد العــــذاب الأكبــــر حيث يعود إلى التشطير بالنون والراء، كي تستقيم الضفيرة الموسيقية المشبعة لإيقاع المقاطع وترتد إلى القرار المتكرر بعد خروج الغصن عنه، فالتنقل في كل مقطع هو الذي يضمن التحام الإيقاع وتجاوب النغم المتسق للغناء. أما أن وصل الحبيب مثل الماء للعطشان واليسر والرخاء للمعسر والجنة الوارفة للمذنب الذي ذاق سم العذاب فكلها صور مضمخة بعطر الحياة الدنيا وآمال الآخرة مما كان، وسيظل، مسيطرا على وجدان المجتمع المسلم في جميع العصور.