حينما يكون هناك شيء جميل خلق في وجدانك أمراً ما، وألهم مشاعرك وقتاً ما، وشكّل أحاسيسك في فترات من العمر هي مفاصل في حياتك، كقصة أول حب.. كأن تتركك تلك الفتاة التي تحبها وتحب المطر أن يحني قدميها، وتحب أن يكون بابها موارباً قليلاً عليها تشعر بالتماعة الخد وبرودته التي يسربها خشبه القديم، وفجأة تقرر أن تذهب إلى مكان بعيد، مع رجل غريب، حين يكون هذا الأمر الحلو في حياتك، وربما كنت سعيداً بتواجدك في وقته، ماثلاً في تكونك الحسي والجسدي، كامرأة لها تمددها الجغرافي، ولها ولهها الساكن في حنايا الذاكرة، ولها حضورها الطاغي في تفاصيل الحلم، مرة على مخدة العمر النضر، مرة بكل كلماتها التي يسبقها اللحن الراقص، والنغم الذي يطير مع حمامة القلب البيضاء باتجاه الماء والظل، وردة.. هكذا هي منذ أن عرفت الدنيا وهي تملأ الرأس، وتفرح القلب، وتجعل من الوقت زاهياً ملوناً بعطر من السعادة، وردة وجزائرية صنوان وضدان، والضد يظهر حسنه الضد أحياناً، فلا تعرف كعاشق بدوي إلا امتداد تلك الرقبة الممتلئة بمقدار، وتلك الحنجرة التي يمكن أن ترد بشجوها أغنامك السارحة في البراري، وتجعلك تلوذ عند أول ظل لشجرة تتحدى العطش، وتخلد عندها كسكن، وردة كانت حاضرة في تغييرات الجسد والعقل، شأن الكثيرين ممن عرفوها في وطن أو مهجر أو غربة بعيدة، نكبرها لنضعها عالية، وهي ما برحت تشدو لتجعل منا عالين، كانت فرحنا الملون في أفلام بالأبيض والأسود، كانت همساً رطباً في زوايا باريس، وكانت لها الحظوة حينما كانت بيروت، حتى أبوظبي كان لها ذاك الحضور في صيف لن يتكرر، وفي القاهرة كان لها ذلك الليل والسكن ومؤانسة الطرق التي نقطعها مع أصدقاء صعاليك يعشقونها حد الوجع، وردة كانت حاضرة، وإن غابت، باقية في ثنايا اليوم وتفاصيله، في اللحظات الحلوة لنساء من وقت وتعب، وفي الثمانين كانت أغانيها مهدئة للوجد وذلك الحنين الذي يعطي لزهرات القلب حرية السفر البعيد، ولطيوره أن تذهب بعيداً، وترجع عميقاً، لا ننساها وإن تناسينا أو أنستنا السنون إياها، فبها ومعها كانت ساعات تؤنس الوحدة وتجعل الرأس يتمايل وأطراف القدم، تهزنا ضحكتها بإيقاعها وترانيمها، لقد كبرت معنا وما زلنا نحبها.. فللوطن عندها قصة، وللرحيل عندها قصة، وللمنافي عندها قصة، منفى الوطن، ومنفى اللغة، غير أنها عبرت عن الوطن بلغة، واختصرت اللغة بوطن كبير، لذا قلما شهدت امرأة يحبها الجميع، وقلما يعنون الحب بظهور وجهها البشوش، وتلك العيون الضاحكة المسرارة، وردة لأنك وردة من وقت وزمن ووطن حري أن تدفني في “العالية” هناك حيث الطيور الخضر التي يمكنها أن تطير في غبش الفجر كل يوم إلى جنة بعيدة ومنعمة بالخلود!


amood8@yahoo.com