ينخدع المتوهمون بالجمرة حين يدفنونها في الرمل ويقولون: ماتت. ذلك لأن كل نبت شيطاني يولد في الأصل من النار، ويظل هكذا ينبض حتى لو غطّوه بالرماد، ويظل يتغذى من العتمة والحقد متحيناً الساعة التي ينقض فيها على البياض فيربكه لبعض الوقت. وقد يتسيّد الحاقد مشهد العدالة والحريّة للحظات، لكن الكراهية التي تعميه عن رؤية الأشياء على حقيقتها، والتعصّب الذي يصمّ أذنيه عن سماع الرأي الآخر، يدفعانه سريعاً إلى استعراض جنونه علناً أمام الناس، فتراه يحمل السكّين يطعن بها كل المرايا التي لا تعكس صورته الرثّة. وقد يرفع المسدس على العابرين نحو خلاصهم خوفاً من انقلاب خيبته عليه. وليس بغريب لو تصافح الحاقد مع الشيطان، وسيكون عادياً لو رآهما الناس يجلسان معا في غرفة المؤامرة وهما متوهمان أن الفوضى يمكن أن تكون خلاقة، وأن الشعوب التي تفتحت براعمها ولفحتها رياح الحرية ورأت الشمس، يمكن أن تعود إلى قفص الأمنيات من جديد. ينخدع الغافلون حين يصدقون كل يوم وعد الناكثين، يجلسون عراة في الشوارع بانتظار أفيون السعادة، ويستمعون من على المنصات المخلخلة، إلى خطب أئمة الانتقام الذين يعيدون للفقراء فقرهم، ويمنّون المحروم باللقمة الكبيرة، لكنها لقمة مخلوطة بالسمّ. وعلى تلك المنصات يلبس الأراجوز جلباب الحكيم ويرقص رقصة الموت طالبا من الجميع تقليده إن أرادوا الحياة. سيقول شاعرهم إن الكرامة تبدأ بإقصاء الآخرين ونفيهم، وسوف تهتف له الجرذان التي خرجت للتو من الجحور. وسوف يقول كبيرهم، سحرُنا أدهى، وقيامتنا أن نشعل النار والدخان في الأرض لكي تتسيّد العتمة، ولا يعود أحد يرانا حين ننهب الحقوق من جيوب أصحابها. وسوف يمر دهرٌ هو في الحقيقة بضع لحظات، عندما تعود رياح الحرية لتهبّ من حناجر الشرفاء فتطرد الغمام إلى غير رجعة. وينزل مطر الوضوح غزيراً ليطفئ كل فتيل أشعله سماسرة الأفكار بين أبناء الوطن الواحد. ينخدع الجاهل حين يرمي له المزيِّفون بضعة نقود قائلين: جئنا نشتري عذابك فاتبعنا كي نهزم القدر، ومن غير أن يدري، يغرق الجاهل في كلماتهم، ويظل يرددها إلى أن يصبح ببغاء في غوغاء. ثم يقولون له: أقتل أخاك كي ننجوا بفرحتنا، أخنق الحقيقة لو حاصرتك بأسئلة كبيرة وخذنا بدلاً منها مرشدين إلى الموت. ومن غير أن يفقه المكيدة، سوف يذهب الجاهل ليخنق الوردة بسبب شوكتها النافرة، وقد يطعن أمه لو نادته من بعيد: أحبّك يا ولدي فلا تخونني في بلدي. وقد يرهن الجاهل بلاده للغريب وهو يضحك، موعوداً بتعويضها بأرضٍ وهمية هي الفكرة المريضة التي يريدون لها أن تنوب عن الأوطان كلها. وهي الفكرة التي لا يصدقها سوى جاهل، ولا يؤمن بها سوى خائن لوطنه. قد يحاول المتوهمون خلط الأوراق، فلربما تضيع الحقائق إلى غير رجعة. وقد يتسترون بثياب الحق لإخفاء الباطل داخلهم، لكن الحقيقة تعود لتشرق حتى لو غطاها الجبناء بمليون يد، ويظل نورها يتسرّب من الشقوق ويكبر عالياً إلى أن يعمى عيونهم فينسحبون من جديد إلى الظلام الذي أتوا منه. akhozam@yahoo.com