إذا أردت أن تخرج من الحفرة، عليك ـ أولا ـ أن تتوقف عن الحفر.. هذا درس عصي على أفهام أصحاب المنهج الأوحادي في السياسة والحكم: نحن أو لا أحد. هؤلاء يفكرون بعضلاتهم. هي أدواتهم الوحيدة سواء كانوا يشغلون الدواوين أو يحتلون الميادين. في سورية التي تطحنها حرب تتداخل فيها القوى والمصالح والأهداف، يبدو النظام الحاكم وكأنه أبرع من أعدائه في تعميق الحفرة لنفسه. فمنذ أن سقط الحراك الشعبي في مستنقع السلاح، راحت أجنحة في السلطة وأجهزة أمنية تتفنن في توسيع رقعة الرفض المتبادل. صنفت كل المخالفين في خانة أعداء الوطن. لم تميز بين طلاّب الإصلاح ودعاة التدمير. من لم يكن معنا، فهو ضدنا، حتى ولو كانت أداته صوته، أو فكره، أو ريشته. لم يتحمل النظام ريشة بقساوة وسخرية ريشة علي فرزات، فكسروا أصابع يديه الإثنين. ولم يتحمل ريشة أخرى برهافة وشجن ريشة يوسف عبدلكي، فاختطفوه بطريقة غادرة، تماما كما يفعل قطاع الطرق. لماذا يكون المثقفون والمبدعون هم أول ضحايا الثورات وأعدائها؟ سؤال أجابت عنه، عشرات الدراسات والمراجعات التوثيقية لتاريخ الثورات في العالم. تبدو مسألة الحرية هي المشنقة التي تعلّق فيها رقاب الشعراء والفنانين والمفكرين. الحكام لا يتحملون حرياتهم الزائدة عن الحد، والثوار يتبرمون بحرياتهم الفائضة عن الحاجة. يصدق الدارسون والمحللون في هذه النتيجة، لكنها ليست كافية. لم ينتبهوا إلى مسألة الإخلال بتوازن القوى الذي يتسبب به المبدعون. كل قصيدة تساوي كتيبة دبابات. وكل لوحة تتفوق على سرب طائرات. الدبابة والطائرة عرضتان للتدمير، أما القصيدة واللوحة فهما باقيتان ما بقيت العقول والصدور. لوحة يوسف عبدلكي، حادة النصل، فضّاحة، جارحة، جارفة، قادرة على التحريك والتأثير. حسبها النظام على نوعية الأسلحة الفتّاكة التي يمتلكها أعداءه، على الرغم من أن الفنان لا يستخدم في إنجازها غير القلم الرصاص. لونان فقط الأسود والأبيض. يرسم القاتم تفاصيل “ميتة” من المشهد السوري، ويشعل الباهت الحسرات التي لا تنتهي. هذا ما تقوله لوحة عبدلكي “شهيد من درعا” مثلا، أو لوحتا “أم الشهيد”، أو اللوحات الناطقة بجمجمة خروف، أو السمكة المقطوعة الرأس، أو طائر في قفص يخيفه الباب المفتوح، أو تلك المرأة التي غابت كليا عن اللوحة ولم يبق منها غير فردة حذاء.. عرف النظام، إن لوحة يوسف عبدلكي أقوى تأثيرا من نشرة أخبار تلفزيونية، تقتحم خلالها الكاميرا الجريئة مناطق القصف العشوائي، ومعسكرات القتل الجماعي، وكهوف النحر الوحشي.. لذلك كان لا بد من قصف ريشة الفنان الذي شب على الشغب الوطني، فعارض وسجن، ونفي لسنوات عديدة، ثم عاد إلى وطنه، لأن موقعه الطبيعي في الداخل وليس “مع الخارج”.. واللافت إن المعتدين على يوسف عبدلكي، وغيره من المثقفين والفنانين، يشبهون كثيرا أعدائهم. فالذين دمروا تمثال أبو العلاء المعري هم من طينة النظام الذي يحاربونه. والعكس صحيح.. مشروعهم الثقافي واحد: نحن أو لا أحد.. والمقولة الرائجة عن إن مثل هذا النظام أو تلك الجماعات لا يمتلكون مشروعا ثقافيا خاطئة تماما. إنه مشروع الإلغاء والإقصاء، مشروع الأوحادية التي يبرعون في تعميق حفرتها. ومن سخرية القدر إن يوسف عبدلكي هو من الفنانين العرب القلائل الحاصلين على دبلوم في الحفر من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1986، لذلك كان من السهل أن يوقع النظام في حفرته.. adelk58@hotmail.com