نأتي إلى واحدة من أهم منظومات الششتري الصوفي الأندلسي وأبلغها تعبيراً عن رؤيته للحياة، حيث تشفّ كلماتها من ثقافة رفيعة انتشرت في البيئة الأندلسية، تتجاوب فيا أصداء فنون العمارة والرسم والمسرح والشعر والفلسفة، وهي موشحة طويلة متعددة الأبعاد، يستهلها بالمركز الذي يكرره عقب كل مقطع فيقول: “عدِّ عن الوهم والخيال/ واستعمل الفكر والنظر ما الناس إلا كما الخيال/ فانظر إلى ماسك الصور” والطريف هنا هو تجسيد الخالق سبحانه باعتباره “ماسك الصور”، فمشاهد الحياة ليست سوى أخيلة نتوهمها في الحلم أو في اليقظة، أما عند استعمال الفكر والتأمل فالحقائق كامنة وراء هذه الأشكال. وهنا نجد تأثيراً واضحاً لمنبعين ثقافيين: أحدهما هو نظرية أفلاطون في كهف المثل العليا. أما المنبع الثاني فهو ما نظن أنه كان قد انتشر في بعض المدن الأندلسية بعد استردادها من فنون مسرحية ذات طابع ديني يتوالى فيها الممثلون على خشبة المسرح الكنسيّ وتحجبهم الستائر التي ترفع عند بداية العرض، ويقدمون مشاهد تخييلية رمزية يديرها من ينظم حركة العرض وهو المؤلف، فكأنه “ماسك الصور” المتغيرة، لكن الشاعر يستحضر ذلك ليجسد رؤيته الصوفية متابعاً بقوله: “من يعتبر يجد اعتباره/ ويشه الحق في الشهود مثل ـ هديت ـ الوجود ستارة/ وانظر لمن أطلع الوجود يداً له قبل أن أداره/ وأول السعد في الصعود من يرقى من سافل لعالي/ يعاين العين في الأثر ما الناس إلا كما الخيال/ فانظر إلى ماسك الصور” فالستارة هي التي تحجب الممثل أو المغنية، ويأتي الصوت من داخلها، كذلك الوجود حقيقة داخلية وراء ستار. وأول السعد في الصعود تعني أن الإنسان في بداية سلوكه يستدل كما هو معروف بالأثر على المؤثر، لكنه لا يلبث أن يتأمل الأثر نفسه فيجد خيالاً عابراً، فينتظر إلى ماسك الصور ويصعد مرتقياً إليه في الأعالي. ويلاحظ الدكتور سامي النشار شارح ديوان الششتري أن الصعود هنا لا يكون إلى الخارج، بل إلى الداخل دائماً، كما يرى أن العين هنا يقصد بها العين الفقهية أي الدار نفسها، ويوضح الشاعر ذلك بقوله: “أول ما يبصر الضعيف/ كالطفل شكلاً ممثلاً كثافياً أصلها كثيف/ لكنها تقبل الجلا لذاتها فعلها يضيف/ والقول مهما تأملا إذا التماثيل للمثال/ يظهر في عالم البصر ما الناس إلا كما الخيال/ فانظر إلى ماسك الصور” أي أن مشاهدة المحسوسات كثائف تحجب الحق، ولكنها تقبل الجلاء، فإذا أضيف إليها أفعال الإنسان وأقواله.. فإنها مجرد تماثيل ظاهرة، لكنها أخيلة في حقيقة الأمر على الإنسان أن يتجاوزها ليصل إلى من يديرها ويمسك بزمام حركتها. وقد درج علماء اللغة على اعتبار «كما» غير فصيحة، بل هي من صنع اللهجات العامية، وهنا نرى العامية الأندلسية قد سبقت إلى تفصيحها منذ القرن السابع الهجري، وأضفت عليها روحاً تمثيلية قريبة من مجالات الفن عندما تترجم إلى صيغ لغوية سائغة.