الكُتاب، الوزراء، الفقهاء، العلماء، المثقفون. تسميات متماسة في مجالاتها الدلالية التي تنبسط على سياق تاريخي طويل، يتعلق بأجهزة الدولة وتشكيلات القوى الفاعلة والمتفاعلة فيها، عبر تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، منذ أن كتب الجهشياري كتاب “الوزراء والكتاب” وليس انتهاء بما كتبه ابن الأبّار في “إعتاب الكتاب”. وذِكر الكُتاب والوزراء يستدعي ذكر الطرفين اللذين يتكون منهما زوايا مثلث تكتمل بها عمليات تاريخية متغيرة. وتتقابل في قاعدة هذا المثلث ثنائية الكاتب والسلطان التي لم تخل العلاقة المتوترة بينهما من تقلب الأحوال وتصارعات المواقف والمصالح، فمن ناحية تتحول ثنائية العلاقة بين الكاتب والسلطان ما بين حالي الإيجاب والسلب؛ حيث ينال الكاتب في الأولى مكانة الوزير المتنفذ، أو يرزئه السلطان بجحيم السجن، وربما يلقى سيف الجلاد في الثانية. وفي مقابل العلاقة المتوترة بين هذين الطرفين، هناك الطرف الثالث الذي يكتمل به المثلث متغير الأوضاع حسب السياق، أعني الطرف الذي يقع فيه الرعية المحكومون، أو الشعب، أو العامة، أو المواطنون، وكلها مسميات متغيرة تشير إلى تحول الأوضاع ما بين أحوال النفور والرضا؛ فهم “همج ورعاع وغوغاء”، كما يصفهم أبو حيان التوحيدي فى أحوال النفور التى تقترن بأوضاع تاريخية بعينها، وفي المقابل يتحول هؤلاء إلى مصدر السلطات والشعب القائد أو المعذبين فى الأرض الذين يتبنى الكاتب (الذي تحول إلى “مثقف”) قضاياهم، ويدافع عن مصالحهم فى وجه السلطان. وكتاب الصديق خالد زيادة “الكاتب والسلطان” يعرض لعدد من الموضوعات المهمة التي تكشف عن تفاصيل العلاقة المتوترة بين زوايا المثلث الذي لم يكف عن التغير والتبدل والتحول عبر تاريخنا الثقافي والسياسي والاجتماعي. وتمضى هذه الفصول بين منعطفين تاريخيين، يخص أولهما مطلع القرن السادس عشر، ويرجع ثانيهما إلى بداية القرن التاسع عشر، وما تبع كلا المنعطفين من متغيرات، لم تفارقها مؤثرات متعددة داخلية وخارجية. ورغم أن الكتاب يحمل عنوان “الكاتب والسلطان”، في سياق زمني بعينه، فإنه لا يغفل عن وضع العلاقة بين الطرفين في سياقها الأشمل الذي يشير على سبيل التضمين واللزوم إلى بقية تفاعلات وصراعات زوايا المثلث، من خلال فاعلية التناص التي تومئ إلى الأبعاد التاريخية لتحولات العلاقة بين الزوايا المتكافئة حينا، والمتوازية حينا ثانيا، والمتصارعة في أغلب الأحيان. وبقدر ما يؤكد خالد زيادة، في كتابه الذي يستحق القراءة المتأملة، تحولات العلاقة بين أهل العلم وأهل القلم من ناحية، وأهل السلطة الحاكمة من ناحية مقابلة، فإنه لا يتجاهل الوجه الآخر من العلاقة التي تصل الطرفين بالطرف الثالث المنطوي على حضور الجماهير، في صراعات القوة والسلطة والمعرفة، ما بين الفاعلين لها والمنفعلين بها. ويمضي ذلك عبر فصول خمسة، أهم ما فيها أنها تطرح من الأسئلة ما يدفع القارئ إلى تحويل الإجابات إلى أسئلة موازية، تفتح للوعي التاريخي آفاقا واعدة بإمكاناتها الثرية. وهو ما حدث لي أثناء قراءة هذا الكتاب الذي أهنئ صاحبه عليه.