سؤال ليس عابراً، وليس زائداً عن الحاجة، لكنه سؤال بحجم تجربة أي كاتب مضى زمن طويل عليه وهو يكتب، كاتب قرأ وسمع وسافر وتحدث ورأى ما جعل قلبه يمتلئ بالأفراح وبالكثير من الأمنيات والأحزان، ما جعله يرى في الصمت تعالياً على التفاهة، وفي القراءة تعالياً على السفاهة، ما الذي لم تكتبه بعد أيها الكاتب الذي قضيت عمرك أمام الورق، وأمام شاشة الكمبيوتر لتقول لقرائك فيم تفكر وفي أي المجرات يجول عقلك وماذا تتمنى ؟ مالذي لم تكتبه بعد ؟
سؤال يمكن أن يوجه لأي شخص، لأي موظف لأي طبيب لأي مهندس لأي معلم لأي قبطان سفينة ولأي ممثل أو رسام، أي رواية لم تكتب وأي لوحة لم ترسم وأي بلاد لم تزر وأي كتاب لم يقرأ وأي... هناك أمر لم يحدث بعد، هناك فكرة لم تخطر بعد على البال، هناك مسرحية لا زالت تداعب خيال ذاك الممثل، وهناك مقطوعة موسيقية لا زالت عصية على أن تتحول لنوتة تعزفها فرقة مختلفة حتى آخر الليل في مكان ما من بلاد الله الواسعة، دائماً هناك مكان جميل لم نذهب إليه ويوم أجمل لم نعشه وفكرة أعظم لم نفكر فيها، ورواية مختلفة لم تكتب بعد...
إن أجمل الأيام يوم لم نعشه بعد،
وأجمل البحار بحر لم ترتده أشرعتنا بعد.
هكذا كتب الشاعر التركي الجميل ناظم حكمت منذ مائة عام، برغم الظروف القاسية جداً، برغم السجن والاضطهاد، ومع ذلك فإن الشاعر كان يسكن في الغد، والذين يسكنون في المستقبل يمتلكون ذاكرتين، ذاكرة الأمس وذاكرة المستقبل، ولهذا فنحن حين نقرأ لناظم حكمت يقول لنا:
إن أجمل الأماكن مكان لم تطؤه أقدامنا بعد
وأجمل البحار ذاك الذي لم نذهب إليه بعد
نوقن أنه عاش المستقبل كما لم يفعل أحدنا، وجاء منه محملا بذاكرة مبللة بالندى المختلف والعشب المختلف الذي لم تطؤه أقدامنا بعد، ذاكرة فيها أطفال مختلفون لم نعرف كيف سيكونون لأنهم لم يكبروا بعد، لو لم تكن لديه ذاكرة الغد لما حكى لنا هذه التفاصيل، نحن الذين بالكاد لا تمتد ذاكرتنا لأكثر من نهاية اليوم، وربما منتصفه فقط، فنتخيل كيف ستكون وجبة الغداء أو فستان الحبيبة التي سنقابلها أو الهدية التي سنتلقاها هذا المساء. إن أجمل الأطفال من لم يكبر بعد، ?وأجمل أيامنا التي لم نعشها بعد، ?وأجمل ما أريد قوله لك - يا حبيبتي - لم أقله بعد،
نحتاج أن نفكر وأن نمتلك هذه الذاكرة / الحلم، لنقاوم قيظ الواقع، أولاً لأن القيظ صعب لولا فسحة الأمل بسفر قريب، وثانياً لأن نداوة الحلم وحدها كفيلة بأن تمنحنا القدرة على عدم النسيان، هكذا فكرت وأنا أستمع لتلك الصغيرة تسألني عبر الهاتف: إلى متى سنظل نطالب ونحلم ؟ لقد تعبنا ؟ حين قالت لي تعبنا، تأملت أعوامها الصغيرة ورأت هي ابتسامتي عبر الهاتف، سألتني أتسخرين ؟ قلت لها بل على العكس أفرحتني العبارة ؟ لأنني لمست فيها شغف القلب التواق للغد، أنت تعبت من اليوم، لكن أجمل الأيام يا صغيرتي يوم لم نعشه بعد، وأجمل الأمنيات أمنية لم تتحقق بعد.
مالذي لم نكتبه بعد ؟ إن أجمل ما لدى الكاتب هو ما لم يكتبه بعد، ربما تحت سماوات أخرى سيكتب ذلك الأجمل.

ayya-222@hotmail.com