يجلس الفقير على قارعة الطريق بحثا عن اللقمة الساقطة من فم النسر، رجله المشلولة في المعاناة لا تكاد تحمله سوى شبرين، ذاهبا من عتبة المأساة إلى عتبة الصبر أو بالعكس، وما من طريق ثالث في مصيره سوى أن يطرق كل يوم باب الرجاء الذي لا يغلق أبدا. ومن يتذوق الفقر، ومن تعلق رجله في شباكه الضيقة، تصبح حياته كلها عراكا مستمرا من أجل الحصول على قوت يوم. وقد تتسرب المرارة إلى الفقير حين يجد نفسه محاطا من كل الجهات بأثرياء غرباء جاءوا من البعيد ليفترشوا الأرض قربه، وقد تدمع عيناه حين يرى أطفاله يلهون بالحصى، ويمضغون الخبز اليابس، بينما أطفال الآخرين يتراشقون بالحلوى غير مكترثين لو فاض الخير من جيوبهم أو سقطت دنانيرهم في البحر. وبالنسبة لبعضهم، أن يذهب الخير الوفير هباء في الريح، أولى من رميه في اليد الممدودة للفقير. وهؤلاء هم طامّة المجتمعات وسبب اختلال ميزانها. لكن الفقراء، وإن لسعتهم شوكة الصبر، فإن أكثرهم ينام هانئا في آخر يومه، متوكلا على الذي يقسّم الأرزاق بالعدل، ملتحفا بحرير القناعة. وفي أشدّ اللحظات عسرا، قد تصبح قطرة ماء واحدة أعذب من زلال الأرض كله، وربما تكون اللقمة المقسومة بين اثنين، أشهى من ولائم البذخ، اللقمة الصغيرة التي تكفي لسدّ جوع يوم بأكمله. يجلس الغنيّ على جبل من الذهب مرتبكا خائفا من زواله أو نقصانه، فإن هبّت الريح راح يجري ليغطيه، وإن حلّ الليل دامسا، سهر عليه يحرسه من عيون الطامعين. وحين يمرّ عليه الفقراء وهم يئنّون من الجفاف والعطش، يغمض عينيه ويصمّ أذنيه وقلبه. ومن الأغنياء، أن يلبس المِزق، ويفترش الحصير على الأرض، ويمشي بنعلين مقطوعين، أهون عليه من منح درهم واحد لفقير. وهذا يموتُ قبل أن يموت، وتسبقه الحسرة إلى ترابه. ومن الأغنياء من يختار طوعا أن يمنح خلسة من غير أن يدري به أحد. وهذا يعيشُ، وروحه تسموا إلى درجاتٍ لا يصلها حتى المتعبّدون في نسكهم الطويل. والغنيّ الذي يشدّ حبل الفقير ويعينه على الخروج من حفرة اليأس، هو من يجعل الحياة في المجتمعات عرساً مستمرا، وهو الذي يطرب حين تتبدّل الآهات على الشفاة المحرومة، إلى نشيد شكر. وهو الذي يسعد حين تكبر في العالم روح المشاركة وتتهدم جدران الفروق بين أبناء الأرض الواحدة. تكبر شجرة العطاء حين نرويها جميعا بما نملك. يغرف الشاعر من بحر الخيال في دمه ويسكبه منحةً لمن سد الجهل منابع البصيرة فيهم. ويقدّم الحكيم خلاصة صمته فيورق غصن الحقيقة ويخضرّ، ويفتحُ الكريمُ كنزه قبل أن تقرص الريح الباردة جلد جيرانه. ثم يأتي العالِم ليثبّت راية المعرفة في الأرض، شاقا الطريق إلى مستقبل أبهى. ويد الخير، اليد التي تعطي بلا شرطٍ أو منّة، تظل تطول تطول لتطعم بنورها أفواه المحرومين في العالم كله. الحب عطاءٌ دائم أحتاج كسوة العناق أجوع إلى ابتسامة لا تنضب akhozam@yahoo.com